في مواجهة الهجمة التي تعرضت لها «ألف ليلة وليلة»، ورداً علي دعاوي مصادرتها وملاحقة من أصدروها، وقف غالبية المثقفين في مصر موقفا موحداً ضد دعاوي المصادرة، وضد فرض الوصاية علي العقول، وتحديد جماعة من الناس لنا ما نقرأه وما لا نقرأه. تقاربت معظم آراء المثقفين والمبدعين في الحوارات الصحفية والبرامج التليفزيونية والإذاعية، واتحدوا في رفضهم استئصال أجزاء من التراث، ورفضهم الحجر علي حقنا في أن نقرأ ما نريد. وبادر اتحاد كتاب مصر إلي عقد مؤتمر أعرب فيه الاتحاد عن رفضه لمصادرة «ألف ليلة وليلة»، كما نظمت الهيئة المصرية العامة للكتاب ندوة ناقشت فيها «ألف ليلة وليلة» ودعاوي المصادرة، شارك فيها عدد من النقاد والمبدعين، حيث رفضوا فيها موجات الظلام التي تحاول اجتياح ثقافتنا. وفي نفس الوقت أصدر رؤساء تحرير السلاسل التي تصدر عن هيئة قصور الثقافة في اجتماع عقدوه برئاسة الدكتور أحمد مجاهد - رئيس الهيئة - قراراً بإصدار طبعة ثانية من «ألف ليلة وليلة»، بعد نفاد الطبعة الأولي، وقد صدرت بالفعل الأسبوع الماضي مذيلة بالحكم القضائي الصادر سنة 1986، والذي قضي برفض مصادرة «ألف ليلة وليلة» عندما أثيرت ضجة مماثلة حولها حينذاك، وكان حكم المحكمة باتاً وقاطعاً في أن «ألف ليلة وليلة» تراث إنساني لا يجوز المساس به. ورغم أن مواقف غالبية المثقفين والمبدعين كانت واضحة في رفضها لمنطق المصادرة والوصاية، فإن هناك من كان لهم موقف آخر. فهناك من رأي - مثل الأستاذ الدكتور أحمد درويش - «أن كتب الأدب شأنها شأن كتب العلم ليست متاحة وسهلة لكل الناس، فلا يعطي الكلام العلمي لغير المتخصصين، خاصة إذا كان من المراهقين»، ورغم أن الدكتور درويش يعود فيؤكد رفضه لمنع هذه الكتب لكنه يري تحديدها «في إطار الطبعة المتخصصة للقارئ المتخصص». وفي الحقيقة فإن العالم قد تجاوز فكرة احتكار العلم والمعرفة من قبل فئة من المجتمع دون غيرها منذ زمن بعيد، لقد حرر اختراع يوحنا جوتنبرج للمطبعة الإنسانية من سيطرة حفنة قليلة من السدنة للمعارف والعلوم، وأصبح العلم والأدب متاحاً للجميع. وعندما طبعت هيئة قصور الثقافة «ألف ليلة وليلة»، أو بالأحري إعادة نشر طبعة بولاق الصادرة للمرة الأولي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لم تطبعها للمراهقين أو للأطفال، إنما طبعتها طبعة عامة في آلاف قليلة من النسخ، ولا أعرف نموذجا سابقا في عصرنا هذا تُحَدَّد فيه سن من يمكن أن يطالعوا كتاباً، أظن أن الأفلام السينمائية وحدها هي التي يتم تحديد سن لمشاهدتها بمعرفة أجهزة الرقابة، وحتي هذا القيد الرقابي يكاد يسقط مع انتشار التقنيات الحديثة في نسخ وتداول الأفلام، وتبقي مهمة الأجهزة الرقابية التنبيه ومهمة الأهل المتابعة، لكن الكتاب شيء آخر. وقد تعجبت من المقارنة بين الليالي والمخدرات في سياق التأكيد علي أن الحرية ليست مطلقة، فمن المؤكد أن الحرية تحدها قيود عدم الإضرار بالغير أو بالنفس، لكنني لا أظن أن الأدب مهما جاء فيه من عبارات يمكن أن يكون ضارا مثل المخدرات. أما عن تبسيط الأدب فهذا أمر آخر، وأظن أن «ألف ليلة وليلة» قد صدرت لها طبعات مهذبة وأخري مبسطة، وثالثة للأطفال، لكن هذا لا ولن يلغي الاحتياج إلي وجود الطبعة الكاملة والتي تصدر في إطار سلسلة متخصصة في كتب التراث. أما القول: «إن هناك ألفاظا كانت مقبولة في وقت ما ليس في الأدب وحده بل في الدين أيضا وأصبحت الآن غير مقبولة»، فيدفع لطرح السؤال: مقبولة مِِِن مَنْ؟ وإذا كان هناك بضعة آلاف اشتروا «ألف ليلة وليلة» وقبلوها، وعشرات الآلاف غيرهم يشترون كتبا دينية ويقبلوها، فمن الذي يمكن أن يعطي لنفسه حق الوصاية علي ذوق الناس؟ ومن حدد الذوق العام في الوقت الحالي؟ ومن يملك تحديد حساسيته من استخدام بعض الألفاظ الموجودة في «ألف ليلة وليلة»؟ هل ستخدش حياء الذوق العام عبارات تأتي في سياق نص أدبي، وهذا الذوق العام يسمع ليل نهار أسوأ الألفاظ علي قارعة الطريق؟! ثم يأتي كاتب في سياق تحفظه علي موقف المثقفين المعترضين علي مصادرة «ألف ليلة وليلة» ليتحدي «أن يقوم أحد المنتفضين ضد المصادرة بنشر مقاطع منها في مقال أو موضوع صحفي يقرأه العامة»، ويتساءل: إننا لم نسمع صوتا من اتحاد الكتاب أو غيره من مؤسساتنا الثقافية الرسمية، حين جرت عملية ختان دامية لمناهج التعليم لحذف واستبعاد ما يعتبره من بيدهم الأمر ضد «ثقافة السلام»...لماذا نكون ضد المصادرة هنا ومع المصادرة هناك؟ إنه نموذج لخلط الأمور ببعضها، من قال إن عبارة تأتي في سياق نص أدبي يمكن نشرها في مقال صحفي؟ ثم ما علاقة مناهج التعليم بالتراث الأدبي الذي ثار المثقفون دفاعا عنه؟ ومن قال إن مناهج التعليم لا تمس؟، إن طبيعة مناهج التعليم أن تتغير ويعاد النظر فيها بشكل مستمر، ومن الطبيعي أن يحذف منها ويضاف إليها، أما التراث الذي تركه لنا الأقدمون وإبداع المعاصرين، فلا يحق لأحد أن يمسه أو يفرض عليه وصايته.