"إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره، أذهب عن ذوي العقول عقولهم".. قرأ الخليفة العباسي الأخير، المستعصم بالله العبارة، فما كان إلا أن ردد: "ربِّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي". كانت العبارة منقوشة على سهم، أصاب جارية له تدعى عرفة، وهي ترقص في مجلس لهو بقصره، فمرق السهم من شباك، إلى نحرها المرمري المليس، فقضت نحبها من فورها، وسقط القد المياس على الأرض مضرجًا بالدم، والخليفة ذاهل مصدوم.
إن الموت يدنو، وما حسبه الخليفة بالأمس بعيدًا، غدا اليوم أقرب إليه من الوريد، وإن هي إلا ساعات حتى يكون المغول قد دخلوا عاصمة المسلمين، فيدمروها تدميرا، ويجعلوا من دولة ازدهرت أكثر من خمسة قرون أثرا بعد عين.
كان مستشارو "المستعصم" قد حذروه من أن "هولاكو خان" قائد المغول، قد أعد جيشًا من مائتي وخمسين ألفًا من الرعاة الأشداء، لغزو البلاد، فما كان منه إلا أن قال: "إنما بغداد تكفيني، ولا أحسبه- أي هولاكو- يمنعني إياها".
لكن "قائد المغول" كان أضمر الكراهية لدولة الخلافة، ربما لما يحسه من انحطاط شأن قومه الرعاة الرحل، أمام حاضرة الإسلام، التي كانت بحق قبلة العلم والعلماء، و"المغناطيس" الذي يجذب الفلاسفة والمفكرين والشعراء، فعقد العزم على تخريبها إذا بعث للخليفة: "سأقود جيشي الغاضب، وسأقبض عليك سواء اختبأت في السماء أو في الأرض، سأحرق مدينتك وأرضك وشخصك".
الخليفة في اللهو خلف أسوار قصره منشغل، يغمس أصابعه الخمسة في ولائم الثريد واللحم، يشنف أذنيه بغناء القيان الحسان، يقتطف قبلة ممن ملكت أيمانه، بليدًا خاملا متنطعًا، والمغول يحكمون الحصار، حتى سقطت بغداد بعد اثني عشرة يوما، فدخلها "هولاكو" متبخترًا على صهوة جواد مطهّم، يملي ناظريه من مشاهد الخراب والدمار، وجثامين القتلى الذين قدرت أعدادهم بنحو مليون.
ولم يكن دخول المغول بغداد كارثة على الحضارة الإسلامية فحسب، ذلك أن العراق قبل عام ألف ومائتين وثمانية وخمسين، كما يقر المستشرقون المنصفون، كان منارة إشعاع عالمي، فيه أنظمة زراعة حديثة، وشبكة ري عمرها آلاف السنين، وفيه صناعة وفنون ومعمار وهندسة وطب وفلك.
"البرابرة" ليست تعنيهم الحضارة، هم محض رعاة غزاة، ومن ثم عاثوا في كل شيء تخريبًا، وحثوا الخطى في ظلمات الحقد، فدمروا مكتبة بغداد بما تضم من ملايين الكتب والوثائق النادرة، ذلك قبل أن يعرف العالم الطباعة.
وترى دراسات أن ما فقدته البشرية من علوم، إثر تدمير المكتبة التي اصطلح على تسميتها "دار الحكمة"، قد تسبب في تأخير مسيرة الإنسانية نحو ثلاثة قرون، فيما تذهب أخرى إلى أن "هولاكو" لم يكن يجهل قيمة ما في المكتبة من نفائس، وأنه نقل الكتب المهمة إلى أوروبا ضمن اتفاق ما، بعد أن أمر جنوده بأن يرموا الكتب المتعلقة بشؤون الخلافة والجند والفتاوى الدينية "الملاكي" إلى نهر دجلة، الذي اسودّت مياهه بالحبر شهرا.
أيما تكون الحقيقة، فقد خسرت الأمة "دار الحكمة" واستباح "هولاكو" بعدئذٍ قصر الخلافة، فأخذ النساء سبايا، والذهب مغانم، وزج بالخليفة في السجن، ومنعه الطعام والشراب، حتى يموت جوعا.
وفيما كان "المستعصم" يحتضر صرخ يسأل ما يسد الرمق، دخل عليه "هولاكو" ومعه سبيكة ذهبية فقال: هي لك، إن شئت طعامًا، فقال المستعصم: أيؤكل الذهب؟! قال "هولاكو": إن كنت تدري أنه لا يؤكل، فلمّ احتفظت به، وجوّعت شعبك، فلم يدافع عن ملكك، ولم يذد عن عرشك؟
إن الجوعى لا يحمون أوطانًا، ولا يدفعون عنها البأس، ويبدو أن المثل الشعبي "الجوع كافر" يقصد فيما يقصد بالكفر، الكفر بالوطن أيضًا، وهي حقيقة فهمها القائد المغولي "البربري" ولم يفهمها خليفة المسلمين، إلا بعد فوات الأوان.