أعادني تجلي السيدة العذراء في كنيسة الوراق ثم في عدة كنائس في أرجاء مصر خلال الأيام الماضية إلي الماضي! نعم، فسبعة عشر عاماً هي ماضٍ بكل تأكيد، حيث كنا شباباً نحلم بتغيير العالم فانتهي بعضنا من حلم تغيير العالم إلي حلم تغيير العربية، وحط رحال بعضنا الآخر من حلم تغيير العالم إلي حلم تغيير أو غسيل دمه من فيروس «سي»، ولا يزال بعضنا يعتقد أن تغيير العالم ممكن جداً بشرط تغيير مادة في الدستور، ولكن الغالب فينا والأغلب بيننا هو من اكتفي بتغيير ملابسه الداخلية وفضها سيرة تغيير العالم طالباً منا: لما تغيروا العالم ابقوا ادوني رنة! عشنا وشفنا وشبنا! فلما تجلت ستنا مريم عادت بقوة إلي وجداني وتفكيري روايتي (مريم التجلي الأخير) التي صدرت عام 1993عن روايات دار الهلال، وتدور أحداثها في واقع الصحافة المصرية حيث أبطالها وناسها وشخوصها منحوتون من هذا المجتمع الذي التحقت به صغيراً جداً وأنا في التاسعة عشرة من عمري حين دخلت مجلة «روزاليوسف» وعملت بها منذ عامي الأول في كلية الإعلام، وكانت تلك الرواية حصيلة السنوات الثماني الأولي في علاقتي بالمهنة، وهي السنوات المسئولة عن إنزالك من عالم المثالية والأحلام إلي عالم الواقع والكوابيس، وكان القلب غضاً والعقل بكراً والروح شفافة والوجدان زجاجياً ينكسر من غلظة نسيم ويتهشم بريح الحقيقة، وعدت لقراءة الرواية ورأيت كم كنت وحدي وكم كنت حزيناً وكم كنت أبله متصوراً أنه يمكن للحياة أن تكون علي غير ما تعودت أن تكون، الرواية عن انكشاف الزيف والتزييف في الحياة الصحفية والعاطفية وتهاوي أحلام الحب وفشل تغيير مصر للأعذب والأجمل والأصدق وكل هذا محوره ستنا مريم! كيف؟! أبداً.. في النصف الثاني من الرواية، حيث ينكسر حب بطل الرواية الصحفي الشاب الذي وجد حبيبته ترميه من قلبها في ميدان التحرير فيسعي ليغطس في العمل ويقوم بتغطية وقائع ظهور وتجلي السيدة مريم في كنيسة قديمة وأثرية في ضاحية من ضواحي القاهرة، فإذا به يفض سراً مما لا يقدر علي احتماله، وعندما قرأت الرواية مؤخراً حيث أراجعها لطبعة جديدة تنشر خلال أيام، اكتشفت هول أن شيئاً لم يتغير، لعل العالم كله الذي تحدثت عنه في الرواية لم يتغير رغم كبر سن الكثيرين منهم وتراخي وجود آخرين وتحول حبيبة الراوية من فتاة أحلام إلي فُتات أحلام، وانزواء نجوم وانتفاخ نجومية كومبارس، إلا أنني أكاد أجد نفسي الوحيد الذي لم يتغير سواء في بلاهته أو نباهته!! ومن الرواية هذا المقطع : تمهلت دقائق تلوت فيها آيات من القرآن الكريم ودعاء للنبي أحبه.............وبدأت بحثي الليلي عن الباب الخلفي.. فلما فشلت قررت، وأنا أري علي مقربة من السور أنوار الكنيسة وأسمع هزات الأشجار والنخيل...........وضعت قدمي في أول بروز وجدته صالحاً.. لكنني تعثرت وكدت أسقط فتماسكت ورفعت يدي أحاول التشبث بحافة السور.. في المرة الثالثة تمكنت من ذلك.. شددت قبضتي ونهضت بجسمي حتي كنت فوق الحافة تماماً، مجروحاً ومخدوشاً وفي عرق يكفي نصف أجساد البشر. قفزت في رهبة كاملة إلي ساحة الكنيسة. دخلت في ظلام رهيب، فكته بعض شعلات من نور متسللة من زوايا المدخل وممرات السلم......................... المفترض أن الشرفة في الطابق الثالث، تحسست إفريز السلم.. وبدأت أعد درجاته وأرقام الطوابق.. المبني مهجور بالفعل ومظلم وغامض.. كما أن ممراته الطويلة وأبواب حجراته المغلقة وتماثيله وصوره المكسورة ومواء القطط البعيد، كل ذلك يدفعك إلي التراجع.. لكنني تجاوزت حد التفكير.. وسرت في اللا شيء.. ذهني صار صافياً.. رائقاً ولا أفكر في أي شيء بالمرة.. كنت أخرج من روحي لأشاهد روحي، أنفصل عن ذاتي لأشهد علي جسدي........ وصلت دون ارتباك ولا تردد إلي الطابق الثالث.. واقتربت من أبوابه ... أضغط علي مقابضها حتي انفتح باب كبير في رقة.. دخلت برأسي. ثم جسدي. إلي الغرفة ... كانت السيدة مريم تجلس!