الإنسان منا يرى ما يريد، أو ما يرغب رؤيته، وكذلك يسمع ما يريد، أو ما يهفو إلى سماعه، وهذا ليس رأياً شخصياً بقدر ما هو قانون سيكولوجى يحكم الإنسان، كان السيميائى فى العصور الوسطى يعمل بجد ودأب من أجل استخلاص الذهب من التراب، يقف فى معمله أمام البوتقة يقطر ويحلل ويصفى وينقى وكله توق إلى نتيجة عمله، تجلى الذهب من تراب المادة. وجاء علماء النفس فى القرن العشرين فحللوا ظاهرة استخلاص الذهب من المادة على أنه انعكاس لرحلة السيميائى ذاته، الصعبة والمرهقة والشغوفة، وقالوا إن تجلى الذهب لم يكن إلا روح هؤلاء العلماء وقد صفت وشفت فتجلى ذهبها، هذا العنصر الصُلب الذى لا يفنى. وقد قدم عالم النفس السويسرى يونج هذا الرأى فى كتاب ضخم بعنوان «علم النفس والسيمياء». عادت إلىّ تلك الفكرة مع ظاهرة انتظار العذراء الأسبوع الماضى. أخذت أتأمل صور تجمع آلاف المصريين فى مناطق كنائس العذراء فى الزيتون وعين شمس وعزبة النخل ومهمشة المرج والفجالة ومسرة و6 أكتوبر والعمرانية وإمبابة والقليوبية. تجمع المصريون حول الكنائس فى انتظار البشارة، بكل توقهم إلى رؤية السيدة العذراء. منهم من قال إنه رأى نورا فى السماء، ومنهم من قرر أن الحمام حول كنيسة الزيتون كان رمزا للعذراء. مسيحيون ومسلمون، الكل فى انتظار معجزة السماء، الكل فى حاجة إلى تأكيد أن ما يعانونه فى هذه الحياة سيكافأ ويعوض لاحقا، فى حياة أخرى حيث سيشفع لنا سيدنا محمد (عليه الصلاة والسلام) وسيخلصنا السيد المسيح (عليه السلام). الجميع فى حاجة إلى ربتة كتف، إلى حضن نورانى يخفف من قسوة الواقع ويذكر بالوعد القادم بحياة لا ظلم فيها ولا قسوة، وتبعا للقانون النفسى الذى أشرت إليه فإن كل من رأى العذراء فقد رأى توق نفسه إلى الرؤية، واشتياق روحه إلى الخلاص. المثير للتأمل فى هذه الحكاية هو الانتظار، نحن، كمصريين، فى حال الانتظار الدائم، ننتظر الفرج وننتظر العيش الكريم والستر وننتظر عفو الرب ورحمته، كما أننا ننتظر الديمقراطية التى تدفع الشعوب الأخرى ثمنها دما وزمنا من النضال. نحن فى انتظار العذراء وفى انتظار الفارس المخلّص من الأوجاع والموت المجانى والمرض والفقر، لكن الانتظار يحمل أيضا فى طياته حالة من العجز، من اللافعل، أم أننى مخطئة؟ نعم نحن فى الانتظار، والانتظار يعكس قدرا من العجز، لكن المؤلم فى الحالة المصرية أننا نمارس ظلما تجاه بعضنا البعض، بينما نحن فى حال الانتظار. الموظف المطحون فى مصلحة حكومية ينكل بالمواطن الذاهب إليه لقضاء شؤونه، وسائق التاكسى يستنزف الزبون، والمدرس يطحن أسر تلاميذه بالدروس الخصوصية، والطبيب يدخل مريضه غرفة عمليات دون حاجة، وسائق الملاكى يجور على المشاة، والرجال يتحرشون بالنساء، والنساء يضربن أطفالهن كى يتعلموا ويفلحوا فى حياتهم. ما هذا الجنون؟ لو كنا فقط فى حال الانتظار دون ممارسة الظلم كطقس يومى ضد بعضنا البعض لهان الأمر قليلا، لكننا «نِفِشّ خُلْقنا» فى بعضنا البعض وكل منا يقهر الآخر بما استطاع من سبل، وفى وسط هذه المعمعة يضيع المصرى البسيط الذى لا يزال يتذكر معنى الكرامة الإنسانية والقيم النبيلة، يضيع ولا يجد له مكانا فى مجتمع أصابه الهوس والهستيريا نتيجة القهر الطويل، هل نفكر إذن أن نمارس قدرا أكبر من الطيبة والرحمة مع بعضنا البعض بينما نحن فى انتظار البشارة؟!