تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن الفساد والاستبداد اللذين هما مجرد أعراض لمرض حقيقي هو الخطر الأكبر الذي نواجهه الآن، وهو في كلمة واحدة: الرأسمالية. ولا نقصد بالرأسمالية تلك التي تنمو في تراب الوطن خضراء تتغذي من كيان اجتماعي ورؤية للكون أصيلة تضبط حدودها وتضع لها البوصلة في علاقة الثروة بالمجتمع بالإنسان، بل عدونا هو تلك الرأسمالية التي تراكم الثروة في ظل ضوابط تضمن الحد الأدني من عدالة التوزيع وتحترم مفهوم «الخير العام» لكن تتحرك في إطار مصلحة وطنية واستراتيجية تحدد إلي أين يتوجه قارب المجتمع، وما شروط السلامة التي تم اتخاذها بشأن حماية المواطن وتأمين الوطن. الرأسمالية التي تهدد مستقبلنا هي تلك التي يتآكل في ظلها المجتمع ككيان عضوي ويتم ترسيخ الفردية الشرسة، وهدفنا ليس هو أن يتم سحق الفرد في ظل منظومة شمولية تخرسه وتدوس علي خياراته وكرامته، بل الذي نقصده هو أن الفرد لن تتحقق إنسانيته دون كيان اجتماعي حاضن وفاعل لا يحميه فقط من نفسه وعشوائية غرائزه وأخطرها غريزة السلطة والهيمنة، بل يحميه - وهذا هو الأهم - من الدولة وبطشها واستبدادها. لعبة الدولة الحديثة أنها أقنعت الفرد بأن المجتمع قيد وسقف علي طموحاته، وتحركت الحداثة علي مسارين: مسار التركيز علي الفردية التي تجلت في صور متطرفة أحياناً، ومسار بناء الدولة التي يمكن النظر لها باعتبارها كانت في الحقيقة محض أداة في يد الثروة والسوق كي تتم حماية حرية التجارة والربا بقوانين داخلية وبحدود قومية لا تمنع حرية رأس المال وصولاً إلي حركة الجيوش للهيمنة علي مصادر الثروة وخلق أسواق جديدة لتستمر دورة رأس المال- عبر الاستعمار القديم.. والجديد. ولسنا أعداء لليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا دعاة لنظام يحكم الناس بالحديد والنار تحت أعلام الشعب أو الأمة أو باسم الدين أو القومية العنصرية، كل ما في الأمر هو أننا نحتاج نفهم أن الليبرالية الرأسمالية الاقتصادية المتوحشة التي تتحرك بنهم الثروة والقوة استغلت فكر الليبرالية السياسية التي تتحدث عن التسامح والحرية والعقل كي يتم تبرير وتمرير الكثير من جرائم الرأسمالية ومذابح الاستعمار، وهو ما يفسر التناقض الذي يحكم تاريخ الغرب الذي سالت الدماء فيه من أجل الحرية علي أرضه.. وأسال دماءنا في الوقت نفسه من أجل الهيمنة وبناء الإمبراطورية (وما زال). في خضم هذا الصراع بين القيم الليبرالية وواقع الرأسمالية، يقف المجتمع مهدداً في أهم ما يملك وهو منظومته الإنسانية التي تحقق للفرد ذاته وتحمي تعددية وجوه إنسانيته، كي ينطلق منها لتحديد خياراته الحرة في الحياة علي مسارات متنوعة وثرية. معركة الوطن ضد الرأسمالية ليست معركة سياسية تديرها قوي حزبية أو حركات اجتماعية أو دوائر مدنية، معركة الوطن ضد الرأسمالية هي معركة الناس لأن التآكل ثم الانهيار لا يحدث في ظل الرأسمالية فقط في المصلحة العامة لصالح المنفعة الخاصة، ولا يحدث في قدرة المنظومة السياسية والسيادية علي التحكم في مواجهة اجتياح السوق، بل الانهيار يحدث في نسيج المجتمع الذي لا يقبل ولا يرضي ولا يقنع رأس المال إلا بأن يستبدل السوق به فيتحول الإنسان إلي مجرد مستهلك ويتم اختزاله في بعده المادي فتكون «متعتنا في التسوق».. ويمكنك الحصول علي كل ما تتمناه «الآن وهنا» كما تدعونا البنوك وتحاصرنا إعلاناتها كي نستهلك ونستهلك ونستهلك.. بأموال البنوك وبالربا وعبودية لمفهوم الديون كي تستمر عجلة الرأسمالية في الدوران وتفتيت كل ما هو غير مادي يحاول الوقوف في طريقها من ثقافة وقيم وأديان وأبنية اجتماعية تضامنية أو تراحمية أو حضارية/مدنية. ما سبق ليس كلامًا كبيرًا ولا مفاهيم نظرية، ما سبق نراه كل يوم في ساحة الحياة اليومية والخيارات الحياتية وتحولات المشهد الاجتماعي والإنساني، والمشكلة أننا نقول هذا فساد الناس وانهيار الأخلاق وتفكك الروابط وننعي الآداب والأصول، ولا نفهم أن العلة ليست في الناس بل في الرأسمالية التي تخلق مساحات وتنشر أكمنة وتضع فخاخًا للإيقاع بكل ما هو اجتماعي وإنساني عميق، كي تسيطر عقلية «أنا.. وبعدي الطوفان»، و«أنا ماليش كبير»، و«أريد أن أعيييييييش». معركتنا ضد الرأسمالية ليست مهمة النخبة، معركتنا ضد الرأسمالية هي معركة الناس العاديين في الشارع وعلي الرصيف وفي المنزل والعمل دفاعاً عن كرامتهم بالنضال من أجل حد أدني من الأجور، ودفاهم عن أبنائهم بالنضال من أجل قيام الدولة بواجبات الرفاهية من تعليم وصحة وسكن إنساني، ودفاعهم عن علاقاتهم الإنسانية بمكافحة الفساد والنخب الطفيلية والقيم الاستهلاكية، ودفاعهم عن المستقبل بعدم التنازل عن أمرين مهما كان الثمن هما: العدل في المال.. والشوري في الأمر. معركتنا هي بناء مجتمع يكون سفينة نوح ضد طوفان قارون، وبناء نموذج الإنسان/الأمة ضد الإنسان/المستهلك، وبناء العقل الرشيد الذي ينظر بنور الإيمان ضد العقل المادي الذي يعتبر البشر أدوات يمكن التضحية بهم علي مذبح القوة أو الثروة. معركتنا ضد الرأسمالية هي معركة المواطنة الحقيقية.. معركة كل مواطن.. كل امرأة.. وكل أم.. وكل شاب وفتاة.. وكل أب وكل رجل.. حقيقي. معركة الوطن ضد الرأسمالية هي معركة الدفاع عن «الإنسان».