تتخفي بعض الكوارث تحت أسماء خادعة، تختبئ فتبدو بريئة كي تمر تحت ستار من الدخان فلا ندرك ما سببته من دمار إلا بعد أن نكون قد دفعنا أثماناً باهظة. بعد عقدين من تطبيق فلسفة الاشتراكية بمزاياها وعيوبها، والدوران في فلك مركزية الدولة ذات البطش، جاء الانفتاح كي يقدم صورة وردية عن بزوغ عصر السوق المفتوح، الذي سيحمل معه الرخاء الذي يتذكر من عاش حينها أننا وعُدنا بأنه سيعم 1980، فلم يأت الرخاء بل أدخل السادات كل قوي المعارضة في السجون، تلك التي كانت تحذر من تحول الاقتصاد المصري إلي التبعية أو تدعو إلي ديمقراطية هي صمام الأمان لرقابة برلمانية علي السلطة التنفيذية والتشريعية وشفافية ومحاسبة. وما لبث عصر مبارك أن بدأ ليتم اجتياح الاقتصاد المصري وتبويره، في سباق محموم للتخلص من القطاع العام، وقد رصدت كثير من التقارير والدراسات والأبحاث العلمية الدمار الذي لحق بالاقتصاد الوطني، وتجفيف كثير من منابع الثروة القومية، فضلاً عن تهديد أمن الوطن بالسماح ببيع الموارد والأرض لغير المصريين، وبثمن أقل ما يُوصف به أنه بخس، أو بدقة أكثر بأقل من سعر التراب الذي أُقيمت عليه المنشآت الصناعية في كثير من الأحيان. بالتوازي تم تدمير الثروة الزراعية إما بسوء إدارة القطاع الزراعي وزيراً بعد وزير، أو بالتراجع عن توفير الدولة للمسكن كحق للمواطن مما أدي لتبوير الأرض الزراعية للبناء عليها للوفاء باحتياجات الناس تارة، وشهدت أسعار الأراضي والسوق العقاري قفزة مخيفة في الأسعار لدخول عنصر الطلب من خارج الوطن تارة أخري بأموال المصريين العاملين في الخارج، أو بقدوم الخارج النفطي ليشتري بأضعاف الثمن ويرفع سقف الأسعار بشكل لا مبرر له علي حساب الغالبية الفقيرة، والدولة واقفة تنظر لأن نخبة رجال الأعمال -خاصة القطاع الطفيلي الغالب فيها- بدلاً من أن تكون قوة ضغط يمكن التحكم فيها والسيطرة علي جشعها صارت هي النخبة الحاكمة! وفي إطار إقصاء نظام مبارك لقوي المعارضة أيضاً، وهيمنة الحزب المسمي بالوطني تم إطلاق يد الجهاز الأمني، مما أدي لتجريف مقابل في البنية الأمنية، لصالح أمن الدولة وأمن الأغنياء، فارتفعت معدلات الجريمة بشكل غير مسبوق، وظهرت موجة من السرقة بالإكراه والبلطجة والتحرش الجنسي لم يعد الجهاز الأمني قادراً علي مواجهتها، فضلاً عن ضلوع بعض العاملين به في الكثير من قضايا الفساد علي جميع المستويات. نحتاج فقط للمتابعة لنعرف أن الأمن في مصر يعاني أزمة طاحنة وربما يحتاج مؤسسات أخري لتعاونه في الخروج منها.. لكنه يأبي الاعتراف بالأخطاء، بل تستحل قياداته الكذب جهاراً نهاراً عن ضبط النفس في التعامل مع المواطن في الشارع يومياً، ومع المتظاهرين الذين يتم ضربهم وانتهاكهم واعتقالهم. في ظل هذا الغبش نحتاج أن نحدد من هو العدو الذي نحتاج ترتيب صفوفنا كي نواجهه.. ما هو العرض وما هو المرض، والرد بوضوح وفي كلمة واحدة: تحالف الرأسمالية والاستبداد. فما يؤدي لهيمنة النظام وتحوله لأسد علينا وهو في المواجهات الحقيقية نعامة ليس فقط الاستبداد وليس فقط الفساد، بل الرأسمالية التي وصفوها بأنها سياسات «إصلاح» اقتصادي وهم يفسدون، وقالوا إنها «ليبرالية» تواجه قوي الظلام والإرهاب وهم كاذبون. الرأسمالية هي الكلمة الدقيقة، لا الإصلاح ولا الليبرالية، تلك الرأسمالية التي تخلق نخباً طفيلية وتخنق في المقابل قوي التغيير والإصلاح الحقيقية بكل أطيافها الوطنية، وهي التي تدفع النظم للاستبداد للدفاع عن مصالحها الاقتصادية وتمارس إرهاب الدولة ضد الجميع لصالح السوق، ومصالح السوق فقط. ومشكلة الرأسمالية أنها تتمتع بقدر كبير من الغرور، هو غرور الثروة والسلطة، لذا تبدأ مع الوقت في التفكير في ذبح الفرخة التي تبيض لها ذهباً، وتنتقل من لحظة الحذر والتخفي إلي مرحلة التجبر والتكبر والفجور، وهو ما يٌسقط عنها أوراق التوت واحدة تلو الأخري فنراها عارية وندرك سوءاتها حين يتجاوز الفساد القدر الذي يمكن للعقل تصوره، وتتجاوز السفالة المعدلات المسموح بها دولياً. واليوم ترسل النخب التي خلقتها السياسات الرأسمالية، ووضعت أقل الناس ثقافة وكفاءة في مواقع «التسريع بالتشريع»، وفي كراسي صنع القرار وصنع السياسات، والتي تقف علي تل من الفساد يعرفه القاصي والداني، ترسل اليوم رسالة للشباب وللأمهات وللناس أنها ستطلق الرصاص علي المتظاهرين من أجل الحرية والناقمين علي جرائم الرأسمالية التي حملت بجشعها هؤلاء إلي مقاعد السلطة ليحكموا لمصلحتها الوطن فيفتحوا أسواقه وسجونه، ويكمموا أفواه المنادين بالإصلاح والتغيير، ويتركوا الناس تنام علي الرصيف كي تطالب بأبسط حقوقها في العمل والأجر والغذاء والعدالة والكرامة. لقد خرج الأمر منذ زمن من دائرة حرب السلطة ضد المعارضة، وحرب الرأسمالية الشرسة بتحالفاتها الخارجية ضد القوي الوطنية، إلي صراع النظام ضد الدولة المصرية وضد الناس، والثمن الذي ستدفعه الدولة المصرية بسبب هذا النظام الأعمي باهظ داخلياً، وباهظ أيضاً إقليميا: من سيادة الوطن المهددة من الشمال الشرقي، إلي حياة المواطن المهددة بأزمة مياه من جراء ملف حوض النيل وأمن الجنوب. معركة المصريين ضد قوي الرأسمالية الطفيلية والعالمية، وضد نظام الاستبداد الذي يحكم لصالحها ولمصالحه، وليس لمصلحة وطن هو وطن الناس.. واسمه مصر.