صمد مقهي «البوابين» واحتمل سنيناً طويلة بطولات المحافظين الوهمية ومحاولات تأكيد قوتهم الغشيمة وإثبات شطارتهم العبيطة في مواجهة الشجر ومقاهي الغلابة بالذات بينما جبال الزبالة تنمو وتزدهر، وتَعوَّد المقهي المسكين المسالم علي غارات الحكومة وهجمات رجالها الأشداء التي كانت تنتهي في كل مرة باعتقال وأسر عشرات الكراسي البلاستيكية وفوقهم الفتي النوبي الأصيل «سيد» باعتباره المدير المسئول عن خدمة الشعب و«نخبته» الجالسين علي الرصيف، وقد يفتديه «عاطف» أحيانا ويذهب بكامل إرادته مع الكراسي إلي الأسر، ربما ليفوز في اليوم التالي عندما يتحرر ويعود بالاستقبال الجماهيري الحار والحافل الذي يليق بتضحياته وبياته في التخشيبة ثمنا لممارسة الشعب والنخبة حقهما في اللقاء ليلا، وشرب كوباية شاي وكرسي معسل!! غير أن هذا المقهي البائس الباسل الذي قاوم وصمد وراوغ طويلا الهجمات والغارات الحكومية المتوالية عليه بدا ضعيفا جداً وخائر القوي تماما في مواجهة زحف المال وسطوته القاسية الغاشمة فسقط أخيرا صريع الغواية وأنزل بابه الصدئ فجأة علي ذكرياتنا الحلوة وتاريخ مضئ كان لا يزال يحبو وينمو، واختار بإرادة مشوهة أن يئد نفسه مبكرا ويذهب طائعا إلي مصير قائمة طويلة من المقاهي التي بنت مجدها وحفرت سيرتها العطرة في ضمير الوطن بعدما صنعت من جدرانها وأرصفتها لوحة رائعة تضج بالحياة وتنضح بجمال الاختلاط والامتزاج الطبيعيين بين بسطاء الناس ونخبة الفكر والسياسية والثقافة والإبداع. إذن.. راح مقهي «البوابين» وانزلق بدري إلي الفناء الذي ابتلع من قبل «قهوة متاتيا» المزهوة في تاريخنا بأسماء من نوع الإمام المجدد محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم وسعد زغلول، وكذلك مقهي «إيزافيتش» في ميدان التحرير، و«قهوة عبد الله» و«البرج» و«سان سوسي» في الجيزة.. وغيرها من المنارات التي اندثرت وسقطت ضحية عواصف القبح والتصحر والخواء العقلي والروحي التي ضربت ومازالت تضرب بقسوة في قلوبنا وتسحق أجمل الزهور في بساتيننا وتحرمنا من أعز ما نملك. وأختم بمصادفة بدت وكأن القدر أرسلها خصيصا لكي تفاقم كدري وغمي وحسرتي، فقد قرأت قبل أيام خبر إعلان بلدية العاصمة الفرنسية باريس (عندهم بلدية أصلا بل ومنتخبة أيضا) عن نجاح ملموس لخطة وضعتها قبل ثلاث سنوات للحفاظ علي الطابع الثقافي لبعض أحياء المدينة خصوصا حي «سان جيرمان» وشقيقه «الحي اللاتيني»، وإنقاذ أهم معالم الحيين المشهورين من غيلان المال الذين زحفوا في العقدين الأخيرين بمشاريع المطاعم الفخمة وكافيتريات الوجبات السريعة وفروع سلاسل محال الملابس والأحذية علي المقاهي والمكتبات التاريخية التي صنعت صيت وشهرة الحيين في الدنيا كلها. وقال المتحدث باسم البلدية إن الخطة التي تكلفت30 مليون يورو «قد تكون ساهمت في الإبقاء علي بعض أعظم معالم حي سان جيرمان» الذي تقع جامعة «السوربون» في قلبه تماما (كما تقع جامعة القاهرة في قلب الجيزة)، وأشار بالتحديد إلي أن يقظة مسئولي البلدية أنقذت مكتبات ومقاه مهمة من البيع والوقوع في أيدي تجار ورجال أعمال لا يحفلون ولا يقيمون أي وزن لقيمتها الفكرية والتاريخية، ضاربا المثل بمقهي «دو فلور» وقرينه «كافيه ليه دوماجو» الذي ينافسه ويقع أمامه مباشرة علي الجانب الآخر من شارع سان جيرمان دو بريه. وطبعا من حق بلدية باريس أن تدعي بكل هذا الفخر أن جهودها ساهمت في إنقاذ هذين المقهيين، إذ يكفي لتدرك قيمتهما في تاريخ الثقافة الفرنسية المعاصر أن تعرف أن قامات أدبية وفكرية وإبداعية من حجم «جان بول سارتر» و«سيمون دي بوفوار» و«البير كامو» و«أندريه مالرو» و«بيكاسو»، والشاعرين «رامبو» و«مالارمييه» وغيرهم، كانوا من الرواد الدائمين لهذين المقهيين، بل لقد بلغ من انخراط مقهي «ليه دو ماجو» في الشأن الإبداعي أنها صارت تمنح جائزة أدبية مرموقة باسمها. وقبل اتركك عزيزي القارئ مع الحسرة، اسمح لي أن أزيدك منها بمعلومة تمهد لعودتي إلي السياسة غدا.. فمادمنا نتحدث عن فرنسا ومقاهيها، هل تعلم حضرتك أن أول أزمة واجهها الرئيس نيكولا ساركوزي بعد ساعات من انتخابه كانت بسبب احتفاله بالفوز مع زوجته وعدد من أصدقائه في مقهي مشهور بشارع الشانزلزيه يدعي «فوكيه»؟! لقد أثار اختيار ساركوزي لهذا المقهي الفخم انتقادات لاذعة واتهامات بأنه رئيس «برجوازي» منفصل عن الشعب بدليل ارتياده ل«كافيه» يصل سعر فنجان القهوة فيه إلي حوالي 15 يورو «حتة واحدة»!!