في مصر كما في الدنيا كلها غالبًا تتعب وتقرف فتطرد السياسة من الباب فإذا بها تأتيك من فرجة تحت عقبه أو من الشباك وأحيانًا من الهواء الذي تتنفسه.. هذا بالضبط ما حدث معي عندما جلست منكبًا علي كتابة هذه السطور ونيتي كلها أن أنسي قليلا وأستريح وأريح القارئ المسكين من أي ذكر لشيء من قائمة المنغصات الطويلة المزمنة التي لا تبدأ بجمال مبارك و«سياساته» و«عز» واحتكاراته، ولا تنتهي بنواب مزورين يتحرقون شوقًا لحصد أرواح مواطنيهم بالرصاص الحي في الشوارع. كان دافعي لهجر السياسة وسيرتها رغبة عارمة للكتابة في أمر حزن شخصي كنت أظنه بسيطًا صغيرًا حتي فوجئت بعمق تمدده في روحي لحظة أن مررت ليلة أمس الأول بباب المقهي الصغير البائس الغلبان الذي كان إلي ما قبل أسبوعين فقط يلملم علي رصيفه الغارق في الضجيج شتات ليالينا المنهكة بنهارات تشبه في الغم والهم بعضها، لكن منظر بابه الصدئ بدا وهو موصد وكأن يد وحش خرافي قاس أنزلته عنوة من مرقده ومخدعه الدائم (لا أكاد أتذكر مرة رأيته مغلقًا) ليطوي ذكريات مازال علي شفاهنا طعم حلاوتها. إذن لقد توهمت أن بمقدوري الهروب من السياسة وأحزانها إلي أحزان أصغر لكني ضحكت من نفسي كثيرًا عندما وجدتها تحضر مباشرة وتتسلل بسرعة إلي الكلام من أوله، فالنص الأصلي لهذه السطور بدأ بالكلمتين عينهما اللتين قرأتهما حضرتك حالاً، أي «في مصر..»، بيد أن الفقرة الأولي مكتملة (قبل أن أعدلها) كانت علي النحو التالي: في مصر ما أن يهبط علي خلق الله محافظ جديد من حيث لا يدري ولا يحتسب أحد، فإن أول ما يفعله هذا الآتي من المجهول هو الهجوم والانقضاض الفوري علي الشوارع والطرقات فيغلق المقاهي ويقطع الشجر، ربما إثباتًا لجدارته بالانتساب لنظام حكم يطيق العمي في عينه ولا يحتمل رؤية مظاهر الحياة والجمال وهي تقاوم وتتحايل علي أسباب اليأس والقبح الذي أشاعه سيادته في جنبات الوطن. وأعود إلي مقهانا الغلبان المغلق حاليًا علي مبهجات ليلية بريئة استكثروها علينا، وأبدأ بأن من أقوي آيات غلبه المتعالي وبساطته المترفعة أنه أمضي عمره الطويل كله مستغنيا عن حمل أي اسم رسمي، وإنما ظل مكتفيًا بكنيته المتداولة بين عارفي فضله باعتباره «مقهي البوابين» وحراس العقارات والبنايات الفخمة العتيقة في حي الزمالك، حيث بقي قابعًا صامدًا علي رأس الزاوية التي يبدأ منها سور نادي القوات المسلحة التاريخي بشارع 26 يوليو، وكان ينكمش نهارًا داخل مساحته الضيقة وتحت جنح الليل يتمدد فوق براح الرصيف المفروش في الشارع تحت السور فيضج كلاهما ويزهو بعينات لا حصر لها من الناس الطيبين (رجالا ونساء وشبانا وشابات) ووسط هذا الحشد الممعن في الثراء والتنوع الإنساني تألقت والتأمت في السنوات الخمس الأخيرة حبات عقد فريد قوامه كوكبة من نخبة الوطن لا تقل تنوعا وروعة (ربما كان كاتب هذه السطور أقل أعضائها شأنا) إذ يكفي أن الأديب العظيم بهاء طاهر هو عميدها فيما باقي الكوكبة التي ظلت تتسع وتتضخم يومًا بعد يوم تضم أسماء لامعة لا تبدأ بالأصدقاء : عبد الله السناوي، ويحيي قلاش، والدكتور ممدوح حمزة، ومحمد حماد، وإبراهيم منصور، وأسامة خليل، و.. لا تنتهي بالمايسترو هشام جبر، والدكتور الفنان إبراهيم غزالة، والحاج طه، والدكتور إبراهيم فوزي (وزير الصناعة الأسبق)، ومصطفي اللباد، وعمرو الشبكي، وأسامة الرحيمي، وأمين إسكندر، وجورج إسحق.. إلي آخر حبات العقد الثمين الطويل جدا. هل هذا بلاغ للبوليس والمباحث؟! احتمال، لكن الحال أن «مقهي البوابين» الذي اتخذه بعض حراس ضمير الوطن وكرًا وملاذًا هو الآن مغلق وينتظر رحمة ربنا معنا جميعا. ونستكمل الرثاء والحكاية غدًا إن شاء الله.