انتظار ما قد يحدث فى رابعة والنهضة ومن ثَم ما قد يحدث فى مصر برمّتها، هو حديث واشنطن وقلقها وتخوفها وترقبها. وكررت الخارجية الأمريكية لليوم الثانى على التوالى وبالعبارات المقتضبة ذاتها دون أى تغيير، بأنه من الضرورى لقوات الأمن «احترام حق التجمع السلمى»، إلا أن ما قاله وزير الخارجية جون كيرى فى حديث تليفزيونى بإسلام آباد «باكستان» شد انتباه الكثيرين، إذ قال إن ما حدث لمصر أخيرًا كان «استعادة للديمقراطية» وإن «الجيش لم يسع للسلطة»، وأنه لبّى مطلبًا من الملايين من الشعب المصرى، وأنباء عن ترشيح السفيرة آن باترسون مساعدًا للوزير لشؤون الشرق الأوسط، وبالتالى تركها للقاهرة وأن السفير روبرت فورد هو السفير الأمريكى القادم، وما قاله كيرى اعتبره البعض «إشادة» للجيش لقيامه ب«استعادة الديمقراطية»، ووصفت صحيفة «وول ستريت جورنال» ما قاله كيرى بأنه «أقوى تأييد يأتى من الإدارة حتى الآن لإطاحة مرسى».
كان كيرى فى حديث مع قناة تليفزيونية باكستانية خاصة تسمى «جيو» بإسلام آباد، ومن الغريب أن أول سؤال وجّه إليه كان حول مصر، وأن أمريكا الداعية والمنادية بالديمقراطية لم تأخذ موقفًا واضحًا تجاه التدخل العسكرى ضد الرئيس محمد مرسى المنتخب ديمقراطيًّا، فقال كيرى «إنه سؤال مناسب ومهم جدًّا وأنا أريد أن أجيب عنه بطريقة مباشرة جدًّا. إن الجيش طلب منه أن يتدخّل من جانب الملايين والملايين من الشعب. وكلهم كانوا خائفين من انحدار إلى الفوضى وإلى العنف. والجيش لم يستول على السلطة، حسب تقديرنا حتى الآن، فهناك لإدارة الحكم حكومة مدنية، وهم كانوا يقومون باستعادة الديمقراطية، وهنا قاطعه محاوره الباكستانى، قائلًا: بقتل الناس فى الشوارع؟
فرد كيرى قائلًا: لا، هذا ليس استعادة للديمقراطية ونحن قلقون جدًّا جدًّا حول ذلك». وبعد أن ذكر اتصالاته واتصالات الإدارة مع الرئيس منصور ونائب الرئيس البرادعى والفريق أول السيسى ووزير الخارجية نبيل فهمى، قال كيرى «وقد أوضحنا أن هذا غير مقبول على الإطلاق، ولا يمكن حدوثه، وكما تعلم أوضاع مثل هذه قد تكون محيرة جدًّا وصعبة جدًّا»، واختتم كيرى إجابته بالقول «إن حكاية مصر لم تنته بعد، وعلينا أن نرى كيف ستتطور فى الأيام المقبلة». وقد رأى بعض المراقبين أن كيرى بما قاله خرج عن الخط أو النص الرسمى، خصوصًا أن الإدارة فى موقفها المعلن حتى الآن لم تقل تحديدًا إنها تؤيّد الإطاحة بمرسى، واكتفت بترديد أنها تسعى إلى تسريع استعادة الحكم المدنى فى مصر.
ولم تتغير كثيرًا التغطية الإعلامية الأمريكية لأتباع الإخوان فى «رابعة» و«النهضة» ولما «هو آت ومستخبى بالنسبة لمصر»، وأيضًا عن الدبلوماسية الأوروبية التى تريد وتسعى للتوسط من أجل مصالحة وإيجاد صيغة لإبعاد مصر عن حافة الهاوية. وكالعادة نجد الإشارة الواضحة إلى محاولات أمريكا «وغالبًا قلة حيلتها» فى إيجاد صيغ للمشاركة أو المساهمة فى الانتقال المصرى القائم حاليًا.
وتردد فى واشنطن، أول من أمس «الخميس»، أن الرئيس أوباما حسم الأمر وأنه اختار السفيرة آن باترسون، لكى تشغل منصب مساعدة الوزير كيرى لشؤون الشرق الأوسط. وخروج باترسون من القاهرة وذهابها إلى واشنطن وتوليها مسؤولية كل الملفات الخاصة بالمنطقة، بالتأكيد سيثير عددًا من القضايا ويطرح عديدًا من علامات الاستفهام، والاستفهام لدى صناع القرار فى المنطقة. كما ذكر بأنه تم اختيار السفير روبرت فورد، خلفًا لآن باترسون كسفير للولايات المتحدة. ومن المحتمل أن يتم الإعلان عن اسمه فى القريب العاجل. وكان آخر منصب تولاه فورد هو عمله سفيرًا لبلاده لدى سوريا. وفى السياق ذاته، قالت لورا روزن الصحفية المتابعة لأحوال الدبلوماسية الأمريكية فى «المونيتور» الإلكترونية، إن اثنين من كبار المسؤولين الأمريكيين قد ذكرا هذا الترشيح، إلا أن اختيار فورد لم يتم تأكيده رسميًّا. ويعد فورد من المستعربين البارزين فى الخارجية الأمريكية. وقد عمل من قبل سفيرًا لبلاده لدى سوريا والجزائر. كما كان نائب البعثة الدبلوماسية فى العراق والبحرين. ويتكلم العربية بطلاقة. ويعرف مصر جيدًا كما يقول المقربون منه.
وبمتابعة المشهد فى واشنطن يلاحظ أنه خلال الجدل الدائر والتعليقات المطروحة على الساحة الأمريكية حول مصر ما بعد مرسى أو مصر ما بعد «تدخل الجيش»، فإن فى الغالب الأعم لا أحد «يشتاق لأيام مرسى» أو «يتطلع لعودته أو يطالب بهذا»، وإنما القلق والتخوف ومن ثَم الانتقاد والتساؤل يدور حول «هل هذه المرحلة الانتقالية ستستمر إلى ما لا نهاية؟» و«هل ستكون لدى القيادة العسكرية أو الجيش الرغبة ولنقل القدرة أيضًا فى تحقيق حكومة مدنية وحياة ديمقراطية تشمل الكل ومنهم الإخوان المسلمون؟».
وجاء الكاتب السياسى روبرت كيجن، فى مقال له ب«واشنطن بوست» أمس، ليطالب بقطع المساعدات لمصر حتى لا تعد أو تعتبر أمريكا متواطئة فى ما يفعله الجيش المصرى، حسب تعبيره، ويقول «قطع المساعدات الآن ليس أمرًا خاصًّا بالمبادئ أو حتى بالعمل التزامًا بقوانيننا، إن كان هذا له قيمته. بل كأمر أمنى عملى. ونحن قد ندفع ثمنًا باهظًا فى نهاية الأمر لتواطؤنا فى أفعال الجيش خلال الشهور المقبلة»، ذاكرًا كل ما له صلة بالتعامل مع الإخوان ووجودهم على الساحة السياسية.
ويكتب كيجن فى مقاله «ما ذكره المدير السابق للمركز القومى لمكافحة الإرهاب (مايكل ليتر) للصحفى الكاتب ديفيد إجناشيوس (بواشنطن بوست) من أن الإخوان المسلمين ليست القاعدة، وأن الإخوان نبذت العنف والإرهاب من سنوات مضت، إلا أن هذا قد يتغير فى الرد على أفعال الجيش. مَن يعرف كم عدد الذين سيقوم الجيش بإلقاء القبض عليهم وتعذيبهم وقتلهم فى سعيه لهدف دفع أتباع الإخوان مرة أخرى تحت الأرض؟ وفى هذه العملية فإن الجيش فى مصر قد يخلق جيلًا كاملًا جديدًا من المحاربين الإسلاميين، والبعض منهم قد يذهب إلى الإرهاب. وإذا حدث ذلك ومتى حدث ذلك فإن الولاياتالمتحدة كالسند الكبير وغير المزعزع للجيش المصرى سوف يتم استهدافه من جديد»، انتهى كلام كيجن.
وبشكل عام لم يتغيّر الحديث عن «الخطر القادم إذا لم يتم احتواء الإخوان» و«أن الإخوان ليسوا القاعدة، وبالتالى لا يجب دفعهم ليكونوا كذلك» و«إن كسب ثقتهم فى الديمقراطية ضرورة ملحة لإيجاد حياة سياسية». إنها تنويعات مختلفة حول نغمة واحدة، قد لا تعكس أغلب ما يراه المصريون وقد لا تعبر عما يؤمن به أغلب الأمريكيين، إلا أن هذه النغمة «اهتمامًا بمكافحة الإرهاب» أكثر من كونها «رغبة فى تحقيق الديمقراطية»، تكاد تصم الآذان. وهى النغمة المكتوبة والمقروءة والمعزوفة بكثرة وإلحاح هذه الأيام. نعم، ما يتم حكيه والحديث عنه وما هو مكتوب بكثرة يدور حول هذا المفهوم «اتقاء لشرههم فقط لا غير». ولمن يرى أن هذه النغمة لا تعكس الواقع الجديد والواقع المأمول من كل هذه التظاهرات والمليونيات عليه أن يطرح نغمة أخرى وحكى آخر بدلًا من النغمة النشاز المكرر و«الترهيبى» وبديلًا للأسطوانة المشروخة إياها.