كان من المفترض أن يكون محمود مرسي هو بطل «باب الحديد». حمّال الحقائب في القطارات. زعيم النقابات الشعبي. ابن الطبقة العاملة التي كانت ثورة يوليو تبشر بها. هذا في عام 1958وهي أول فرصة تمثيل محترف للشاب المنزوي في استوديو إذاعة «البرنامج الثاني» يخرج مسرحيات جان أنوي وتينيسي ويليامز وآرثر ميللر وهنريك ابسن. هذه هي بروفة البداية تقريباً. محمود مرسي وقتها كان شاباً في أول العشرينات (ولد في 7 يونيو 1923) عاد من لندن بلا مال ولا عمل، ببطولة تحدثت عنها الصحف المصرية جعلته هو وسبعة مذيعين في هيئة الإذاعة البريطانية رمزاً للمشاعر الوطنية الرومانسية. حكي الحكاية مؤخرا الكاتب والدبلوماسي «حسين أحمد أمين»، مشيرًا إلي أن الوحيد من السبعة (وأمين بينهم) الذي يستحق صفة «البطل» هو محمود مرسي. محمود مرسي حكي علي طريقته الحكاية لكمال رمزي: «..لم تمض عدة شهور بعدها إلا وقام جمال عبد الناصر بتأميم قناة السويس. وكان عليَّ أن أذيع هذا الخبر. وبرغم محاولة كبح زمام مشاعري فإن الانفعال غلبني، وألقيت النبأ بصوت يرتعد نصراً. أخيراً تحقق أحد الأحلام الكبيرة، فقصة حفر قناة السويس وآلاف المصريين الذين ماتوا أثناء العمل الشاق فيها، كنت أستمع إليها بجوارحي كاملة في صباي، من المدرسين عندما انتقلت من المدارس الأجنبية إلي المدارس المصرية.. في الغربة تغدو النزعة الوطنية أكثر حدة خصوصا حين يكون الوطن في لحظات مصيرية.. وما إن اندلع العدوان الثلاثي حتي قررنا جميعا العودة إلي مصر لحمل السلاح». قبلها بشهور قليلة طرده المدير المتعصب من الإذاعة الفرنسية التي اضطر للعمل فيها بعد انتهاء دراسته في «الايديك « (معهد الدراسات العليا السينمائية بباريس)، ليصرف علي حلم الإقامة في باريس عاصمة الثقافة والنور كما يراها (لكي يسافر إلي باريس باع ميراثه وترك وظيفة المدرس في مدارس الثانوي بحثًا عن شيء غامض يجذبه في الفن..). الحكاية أكثر تعقيداً من تأثير صعود جنرالات العداوة للاستعمار القديم (مرسي كان يصرح غالبًا بأنه كان مع عبدالناصر بل علي يساره). تاريخ شخصي مركب مع الأجانب في إسكندرية لورانس داريل التي ولد فيها. هو ابن عائلة برجوازية صغيرة تريد العبور إلي سماء البرجوازية الأكبر. الأب نقيب المحامين في الإسكندرية. لكنه مبكراً انفصل عن أم محمود مرسي الذي وجد نفسه بعيداً عن مكان يخصه وحده. لا يضطر فيه إلي التكيف مع كل مكان جديد.. والمكان عادة يكون أجنبياً: مدرسة إيطالية. إنجليزية. فرنسية.. «..وكثيرًا كنت أسمع كلمة «مصري قذر» باللغات الأجنبية مما كان يحز في نفسي..» و.. «استقر بي المطاف بمدرسة الدمبسكو وكان استقرارًا مؤلمًا، فالمدرسة إيطالية في سنوات الفاشية بكل ما تعنيه من غرور وغطرسة، ولا يمكن أن تخلو حصة من الحديث عن ثلاثة موضوعات كريهة إلي نفسي: عظمة الدوتشي، الزعيم الملهم، الذي يعيد أمجاد روما القديمة... وقوة شباب القمصان السوداء التي لا يحدها حدود... ثم ملاكمهم العظيم بطل العالم بريمو كارنيرا...» وهكذا.. «إزاء احتقار المدرسة بمدرسيها وتلاميذها لي كمصري، كانت سعادتي غامرة عندما هُزم بريمو كارنيرا وتهاوي علي أرض الحلقة وتكوم كجبل من اللحم أمام الملاكم الأمريكي الأصغر منه حجمًا ماكس بابر..» (المقتطفات من حوار نادر يحكي فيه مرسي مشوار حياته ضمن كتاب كمال رمزي: محمود مرسي عصفور الجنة والنار). هكذا تكوّنت نفسية المدرس الداخلية. خجول يتحرك بغريزية تجاه الصور المثالية. يبني ثقافته الخاصة، ويقوي البناء النفسي في مواجهة العالم الذي يشعر بأنه يراقبه. هذا فقط إذا كان يمتلك كاريزما باطنية هي غالباً التي جعلت زملاء المدرسة الثانوية يهتفون جميعا باسم محمود مرسي عندما سألهم المدرس من يقوم بدور لويس الحادي عشر. جورج أبيض كان يلعب نفس الدور علي مسرح الأوبرا وسافر محمود مرسي.. وصفق بشدة لحالة البهاء والسيطرة علي الجمهور التي صنعها الممثل الكبير. ربما هذه هي التلمذة المباشرة الوحيدة لمحمود مرسي، بخاصة أن جورج أبيض اختاره ل «أوديب» في مسرحية لفرقة قسم الفلسفة في كلية آداب الإسكندرية. تعلم منه أداء أقرب إلي ستانسلافسكي. واكتشف معه السيطرة علي حركة الجسد والاعتماد علي قوة الإيحاء. وتعلم منه حكمة النهايات: «... تمزق قلبي ألماً عندما رأيت الجمهور يثور ويتضرر من أداء جورج أبيض (في مسرحية عطيل). أسُدل الستار ليخرج يوسف وهبي الذي يؤدي دور «ياجو» مؤنباً النظارة علي سوء استقبالها فنانًا له تاريخ، وفُتح الستار لاستكمال العرض الذي تقبله الجمهور علي مضض.. حينذاك أدركت أن لكل شيء نهاية.. ولكن من ذا الذي يعترف ويتقبل النهاية..؟!».