ما كان يحيرني كثيرا عند سقوطي وأنا صغيرة قول المارة بجواري: «بسيطة، تعيشي وتاخدي غيرها». كان يستفزني قول «بسيطة»، لأن السقطة كانت مؤلمة، كما كنت أتعجب من قولهم «تاخدي غيرها» وتصورت أنهم يدعون عليَّ بالسقوط مرة أخري. بينما كانت شقيقتي الكبري عندما تسقط، تتلفت حولها أولا فإذا لم تجد أحدا تتحامل علي نفسها وتنفض ثيابها وتعود للسير، أما إذا وجدت أي أحد منا كانت تبكي وتصرخ حتي نمد إليها أيادينا لتقف.. في رأيي أن التفاف الآخرين وتعاطفهم هو شهادة لنا علي وجودنا وأهميتنا، بل أعتقد أننا نستمد ثقتنا بأنفسنا من مدي الشعبية التي نتمتع بها لدي الآخرين. لكن أحيانا ينحرف هذا الاهتمام بصورة غير مقصودة، فعندما أواجه مشكلة، يتطوع الكثيرون لطمأنتي ولكن بطريقة «بسيطة، تعيشي وتاخدي غيرها»، ألا وهي التهوين مما أعاني. ربما لو كانوا مكاني لأدركوا أن آخر ما يودون سماعه هو أن مشكلتهم بسيطة أو غير ذات أهمية. ومع إيماني بصدق النية إلا أن التهوين، لا يؤدي إلي الارتياح ولا يزيل الألم كما يتصورون.. أعتقد أن ما نبحث عنه ونحتاجه ونحن وسط أزماتنا ومشكلاتنا، ليس كلمات التخفيف.. قدر ما نحتاج إلي التعاطف والمشاركة ولو بنظرة متفهمة، أو بصمت هادئ منصت. لكن الآخرين لديهم تصور آخر، فإلي جانب أنهم يُبسِّطون المشكلة، يقومون أيضا، لشدة اهتمامهم، بنوع من الوصاية، فيبلغوني متي يجب أن أتوقف بقولهم: «كفاية كده»، «الناس شايفة إنك مزوداها، بطلي تتكلمي عن الموضوع»، «اجمدي، شكلك بقي وحش». رد فعل مماثل هو ما توقعه مني شاب يحكي لي مشكلته الخاصة بعمله، حيث كان يتوقف عن الحديث عدة مرات ليقول: أنا أعرف أنها مشكلة تافهة بالنسبة لك لكنها مشكلتي وهي مهمة وكبيرة بالنسبة لي. كما شكت لي شابة أنها كلما تحدثت عن مشكلتها التي تتعلق بالشاب الذي اختارته، و ضغط الأهل بأسئلتهم عن عمله وراتبه وخططه للمستقبل، يقول لها الجميع إن كل مشروع زواج يتعرض لمثل تلك المشاكل وأكثر، وأن ما تواجهه شيء عادي. أو كالذي يتلقي مكالمة تنقل له خبر وفاة أحد معارفه، فسأل المحيطين به عن مدي القرابة الأسرية، أو عن العمر، أو مدي عمق العلاقة، وكلما كان العمر كبيرا، وكانت القرابة بعيدة، أو الصلة ليست وثيقة، ارتاح المحيطون وكأنهم وجدوا ضالتهم.وجدوا الإجابات التي ستعينهم علي التهوين من الحدث وتهدئة صديقهم.أو هكذا يتصورون. مدي الصلة، مدي سطحية أو عمق العلاقة، مدي كبر السن، كل الأمور التي تتعلق بالمدي يتصور الآخرون أنها بالضرورة ستتعلق بالمشاعر. وعندما يعلن الشخص مثلا أن المتوفاة جدته، يرد الآخرون: «ياعم، ألم تكن كبيرة في السن؟»، أو: «الشيء اللي يحزن فعلا هو موت الشباب هذه الأيام»، فيصاب الشخص بالإحراج وينكر حزنه لوفاة جدته الطاعنة في العمر ويقول «إنني فقط مشفق علي والدتي لشدة تعلقها بجدتي». وأحيانا يبادرك أحد بعد أن تحكي له مشكلتك، بأن يقول لك: «أمال لو كنت زي فلان؟ احمد ربنا، ويستطرد في رواية مشكلة فلان التي في نظره أكبر وأعقد من مشكلتك. وبتأثير الناس وحديثهم عن مشاكل الآخرين وحجمها وصعوبتها، قلت لصديق إنني أستحي أن اطلب من الله شفاء ابني لأن ما أصابه «مقدور عليه» مقارنة بأمراض عضال أخري يصاب بها أطفال آخرون. فأجابني بأن الله هو الذي يوزع الأقدار علي الناس وهو الذي يرفعها عنهم. «نحن لا نختار أن يكون الابتلاء كبيرا أو صغيرا، لذا لا تترددي في طلب الشفاء التام من الله». علمتني التجارب أن صاحب المشكلة هو الأقدر علي التعبير عنها، لأنه يعيشها ويعرف أبعادها وحجمها وهي بالنسبة له ليست «مشكلة» بل «المشكلة» في أنه لن يقدر علي حلها. بينما مشاكل الناس بالنسبة لنا هي مجرد حكايات وقصص نمصمص شفاهنا ونتنهد عند سماعها أو نقول لهم «بسيطة».