قبل عمرة المولد النبوي.. سعر الريال السعودي اليوم الجمعة 15 أغسطس 2025    15.8 مليون جنيه حصيلة بيع سيارات وبضائع جمارك الإسكندرية والسلوم في مزاد علني    عبير الشربيني متحدثًا رسميًا لوزارة البترول    الفصائل الفلسطينية: ندعو مصر إلى رعاية عقد اجتماع لمواجهة مخططات الاحتلال    مفتي الجمهورية يستنكر التصريحات المتهورة حول أكذوبة «إسرائيل الكبرى»    روسيا: طرد دبلوماسيينا من إستونيا «محاولة لشل السفارة» ولن ينجح    محمد عباس يدير مباراة الزمالك والمقاولون بالدوري    قبل ملاقاة المصري.. بيراميدز يخوض مباراة ودية استعدادًا لمنافسات الدوري    ملف يلا كورة.. وداع منتخب اليد.. اكتساح مصر للسلة.. وقائمة الأهلي    رياضة ½ الليل| صدمة أهلاوية.. الزمالك يحل الأزمة.. رقم جماهيري قياسي.. وتأهل جديد للفراعنة    رحيل مفجع.. التصريح بدفن ضحايا ألسنة نار مصنع البلاستيك بالقناطر الخيرية    مصرع طالب في تصادم سيارة ودراجة بخارية بقنا    ليلة رعب بالقليوبية.. معركة بالأسلحة البيضاء تنتهي بسقوط المتهمين بالخصوص    تامر عاشور يتألق في أضخم حفل غنائي بالعلمين الجديدة    أول ظهور ل ليلى علوي بعد حادثة الساحل: «عملت أشعات والخبطة كانت بسيطة» (فيديو)    هشام عباس يحيي حفلًا كبيرًا في مهرجان القلعة الدولي للموسيقى والغناء 18 أغسطس    تامر حسني: «نفسي أعمل حفلات في الصعيد والأقصر وأسوان والشرقية» (فيديو)    لا تتجاهل هذه العلامات.. 4 إشارات مبكرة للنوبة القلبية تستحق الانتباه    ماذا يحدث في حلب، تسمم العشرات من أفراد "الفرقة 64" بالجيش السوري ونداء عاجل للمستشفيات    النيابة تصدر قرارًا بحق المتهمين بمطاردة فتيات على طريق الواحات    مالي: اعتقال عسكريين ومدنيين بتهمة التآمر على الحكومة بدعم خارجي    بدرية طلبة تتصدر تريند جوجل بعد اعتذار علني وتحويلها للتحقيق من قِبل نقابة المهن التمثيلية    نفحات يوم الجمعة.. الأفضل الأدعية المستحبة في يوم الجمعة لمغفرة الذنوب    د.حماد عبدالله يكتب: الضرب فى الميت حرام !!    ما هو حكم سماع سورة الكهف من الهاتف يوم الجمعة.. وهل له نفس أجر قراءتها؟ أمين الفتوى يجيب    إحباط عملية تهريب كبرى للكوكايين بتنسيق مغربي إسباني ودولي    الأمم المتحدة تدين خطة سموتريتش الاستيطانية    "بوليتيكو": أوروبا تتأرجح بين الأمل والخوف مع لقاء ترامب وبوتين    طريقة عمل سلطة التبولة بمذاق مميز ولا يقاوم    سحب رعدية تقترب.. أسوان ترفع درجة الاستعداد لمواجهة الأمطار    «هتستلمها في 24 ساعة».. أماكن استخراج بطاقة الرقم القومي 2025 من المولات (الشروط والخطوات)    لو اتكسر مصباح السيارة هتعمله من غير ما تروح للميكانيكي: دليل خطوة بخطوة    بيراميدز يخوض ودية جديدة استعدادا للمواجهات المقبلة في الدوري    خالد الغندور: تفاصيل اقتراب عودة أحمد فتوح للتدريبات الجماعية بعد مباراة المقاولون    رسميًا بعد قرار البنك الأهلي.. حدود السحب والإيداع اليومي من البنوك وال ATM وإنستاباي    من الأطباء النفسيين إلى اليوجا.. ريهام عبد الغفور تكشف ل يارا أحمد رحلة تجاوز الفقد    #رابعة يتصدر في يوم الذكرى ال12 .. ومراقبون: مش ناسيين حق الشهداء والمصابين    الفصائل الفلسطينية: نثمن جهود الرئيس السيسي الكبيرة.. ونحذر من المخطط التهويدي الصهيوني في الضفة    رسميًا ..مد سن الخدمة بعد المعاش للمعلمين بتعديلات قانون التعليم 2025    «اللهم ارزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم».. دعاء يوم الجمعة ردده الآن لطلب الرحمة والمغفرة    رسميًا الآن.. رابط نتيجة تنسيق رياض أطفال 2025 محافظة القاهرة (استعلم)    حبس المتهمين بمطاردة سيارة فتيات على طريق الواحات 4 أيام    هترجع جديدة.. أفضل الحيل ل إزالة بقع الملابس البيضاء والحفاظ عليها    تناولها يوميًا.. 5 أطعمة تمنح قلبك دفعة صحية    النائبة أمل سلامة: المرأة تعيش عصرها الذهبي.. والتأثير أهم من العدد    بالصور| نهضة العذراء مريم بكنيسة العذراء بالدقي    طرائف الدوري المصري.. لاعب بيراميدز يرتدي قميص زميله    "بعد اتهامها بتجارة الأعضاء".. محامي زوجة إبراهيم شيكا يكشف لمصراوي حقيقة منعها من السفر    ستيفان مبيا: محمد صلاح كان يستحق الفوز بالكرة الذهبية في السنوات الماضية    تعرف على عقوبة تداول بيانات شخصية دون موافقة صاحبها    وزير البترول يكلف عبير الشربيني بمهام المتحدث الرسمي للوزارة    القانون يحدد ضوابط استخدام أجهزة تشفير الاتصالات.. تعرف عليها    بعد موافقة النواب.. الرئيس السيسي يصدق على قانون التصرف في أملاك الدولة    لأول مرة بمجمع الإسماعيلية الطبي.. إجراء عملية "ويبل" بالمنظار الجراحي لسيدة مسنة    هل دفع مخالفة المرور يسقط الإثم الشرعي؟.. أمين الفتوى يجيب    الإعلام المصرى قوى    درة تاج الصحافة    الإصدار الثانى عاد ليحكى الحكاية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد سعيد محفوظ يكتب: سمعة مصر.. بعبع النظام!
نشر في الدستور الأصلي يوم 16 - 04 - 2010

ربيع ألفين وسبعة.. لا حديث للإعلام الحكومي إلا عن صحفية مصرية «ناكرة للجميل» تعمل في قناة الجزيرة، شرعت في تلويث سمعة بلادها بتزييف لقطات تليفزيونية تظهر (العيون الساهرة علي أمن الوطن) بأنهم «شوية بلطجية» يتطاولون علي الناس في سراديب الأقسام ليل نهار.. الصحفية «اتقفشت» في المطار وتم التحفظ علي شرائط التصوير لعرضها علي الرقابة، التي ستؤكد المؤامرة الخبيثة، ليواصل الإعلام الحكومي هجومه علي قناة الجزيرة ودولة قطر، وطبعاً علي الصحفية التي سيتمطع أحد نواب الأغلبية، وهو يقف شامخاً تحت القبة، ليطالب بسحب جواز سفرها المصري، لأنها ويا للهول «أساءت لسمعة مصر في الخارج"!!
في هذه الأيام، كنت أخرج فيلماً وثائقياً قصيراً من إنتاجي عنوانه (الربيع) عن سكان المقابر في مصر، ولمن حرمه ماما وبابا من التعرف علي هذه الطبقة المنسية من الشعب المصري، فليسمح لي بأن أوقع في نفسه الاشمئزاز والنفور، وأخدش مشاعره البريئة، وأقول له إن عدد أفراد هذه الطبقة يفوق المليون ونصف المليون بني آدم، وبعض الإحصاءات تقدره بستة ملايين، ينحشرون في الترب مع الأموات والعفاريت، لأنهم لم يجدوا سقفاً يظلهم في عالم الأحياء..... أيوه الحكومة عندها خبر!
من فوق كوبري الخليفة في مصر القديمة بدت لي القاهرة كحلبة سيرك، يتشبث بعض لاعبيها بنوافذ الأتوبيسات المكتظة وهي تتمايل كفيل ثمل، بينما يجري البعض الآخر خلف الميكروباصات التي تشق طريقها في الميدان بعنف وعشوائية.. لم أصدق عدسة الكاميرا التي حملتها ببراءة في صباح أول أيام التصوير، أحاول تسلية نفسي بالتقاط المشهد العبثي ريثما ينهي سائقي قهوته أسفل الكوبري، ونستأنف طريقنا باتجاه مقابر السيدة عائشة.. دقائق ووجدتني محاصراً بثلاثة جنود! أحدهم صاح في وجهي بحزم متكلف: الباشا بيقولك تعال معانا من سكاااات... قالها وهو يشير بيده أسفل الكوبري.. نظرت فوجدت «الباشا الظابط» مجعوصاً علي كرسيه، ومستظلاً بشجرة مورفة، بينما يحيط به كام ملازم أول علي كام رائد... هوه يوم باين من أوله!
بطاقة هويتي كانت أول ما طلب مني الضابط، بعدها أمطرني بأسئلة حول هدفي من التصوير والجهة التي أعمل لحسابها!! طبعاً أخفيت هويتي الصحفية، وقدمت نفسي بصفتي الأكاديمية كدارس للماجستير وقتها في جامعة رويال هولواي البريطانية، وأبديت دهشتي من التعامل مع الأمر بهذا الاهتمام، رغم أن زحام القاهرة سيرته علي كل لسان، ولست أول ولن أكون آخر من يقوم بتصويره «للذكري"..!! لم يقتنع «الباشا"، وإنما أصر علي احتجازي وإرسال الصور التي التقطتها للرقابة علي المصنفات الفنية، علي غرار ما طبق علي صحفية الجزيرة.. وختم قراره العنتري بعبارة: لازم نحط حد للي بيسيئوا لسمعة مصر!! سمعة مصر؟ يا نهار إسود..!! طبعاً كان عليّ أن أبذل ما في وسعي لإقناعه بأنني لست من هؤلاء الأشرار! وأنني انبهرت فقط بالمشهد.. وها هي اللقطات التي صورتها، فلتذهب إلي الجحيم... ومحوتها من الكاميرا علي الفور بضغطة زر..
عملياً، يقابل الإعلاميون مثل هذه المواقف بشكل متكرر إذا كانوا يطلون علي الجمهور من نافذة غير مصرية، «سمعة مصر» تقف لهم بالمرصاد وتكشر عن أنيابها كلما نطقوا بكلمة عن الفقر أو التعذيب في أقسام الشرطة أو نزاهة الانتخابات.. لا يفهم من اخترع هذا المصطلح الأعرج أن أي بلد يكتسب سمعته من سلوك نظامه وثقافة شعبه، وليس مما يردده عنه هذا الصحفي أو ذاك داخل البلد أو خارجه.. وأن دبة النملة اليوم يسمع صداها في الحال علي الفيس بوك ويوتيوب وغيرهما من المواقع التليسكوبية علي الإنترنت.. أنا كصحفي أو مذيع أو بقال «ولا حاجة» إذا قورنت قدراتي المتواضعة بإسهامات الشباب والفتيات المنتشرين كالجراد علي الشبكة العنكبوتية، لا يفترض بأحد أن يهبط مستوي تفكيره إلي الظن بأن أمثالي من الإعلاميين خارج مصر هم مصدر المعلومة.. فالمعلومات تتدفق علينا من كل حدب وصوب، وكل ما نفعله هو بث المعلومة بعد التأكد منها.. وفي أغلب الحالات لا تسمح أجندة القناة أو الصحيفة بإبداء الرأي علي لسان المذيع أو الصحفي، فهذه هي مهمة المحلل أو الخبير..!
أذكر أنني في صيف العام 2001 كنت أتناول الغداء في الدوحة مع محمد جاسم العلي مدير عام قناة الجزيرة في ذلك الوقت، وأتينا علي ذكر الخلاف الحاد بين قطر والمملكة السعودية بسبب ما تبثه القناة عما تقول إنه تردٍ في أوضاع حقوق الإنسان بالمملكة، وعلق جاسم العلي بأن ما تفعله الجزيرة هو بث ما يردها من أخبار، فإذا لم يرق بعض هذه الأخبار لبلد ما فإن عليه أن يمنع الفساد أو القصور، لا أن يلومنا علي كشفه.. وجهة نظر!
الطريف أن الإعلام الرسمي يستنكر ذلك علي مذيعي القنوات الفضائية العربية، فيتهمهم بالهجوم علي مصر وكأنهم هم من اخترعوا الخبر، أو كأن طريقة عرضه تعبر عن كراهيتهم لمصر وحقدهم علي الشعب المصري، بينما نجد علي محطاتنا الرسمية من المذيعين من يهاجم ضيفه إذا أبدي وجهة نظر مخالفة لموقفه الشخصي، أو ضد ما يعتقد أنها وجهة نظر الحكومة والنظام.. وقد دهشت عندما ساقني حظي العاثر لمشاهدة جزء من برنامج حواري أقل ما يوصف به أنه عار آخر في تاريخ الإعلام المصري، فقد أصر مقدمه الممثل مصطفي فهمي علي إملاء رأيه الشخصي علي الجمهور، والسخرية ممن خالفوه منهم في قضية ميل بعض الشباب للكشف الطبي عن عذرية قريناتهم قبل الزواج.. وقد بلغ تحيز زميلته المذيعة درجة أنها كانت توزع عبارات المديح والإطراء علي الضيوف الذين يوافقونها الرأي، بينما تتهكم علي الآخرين، وتقمعهم بل وتؤدبهم علي رجعيتهم وتخلفهم!! أي مرجع مهني يستند إليه هؤلاء؟ كم من قنواتنا المصرية لديها قواعد تضبط عمل مذيعيه ومحرريه؟ المؤكد أن أغلب القنوات غير المصرية لديها قواعد لتطبيق أجنداتها.. وأشك في أن بإمكان أي من وجوه هذه القنوات الخروج عن النص مهما بلغت جماهيريته.. فالأجدر بقياداتنا أن تبرز عضلاتها أمام المذيعين الرسميين، الذين يدرّس أداؤهم في كليات الإعلام كنموذج لما لا ينبغي أن يكون عليه المذيع تحت أي ظرف، لا أن «تتشطر» علي المذيعين، الذين لا يفعلون سوي نقل الحقائق...
ومن المثير حقاً أن أكثر من عشرين نائباً في مجلس الشوري كتر خيرهم انتبهوا قبل أيام إلي ما أسموه (فوضي الإعلام).. اجتمعوا وبحثوا وتبادلوا الرأي، وانتهوا إلي ضرورة إصدار قانون جديد.. وماله! ما أسهل سن القوانين وأرخص الترزية الذين يبدعون في تفصيلها.. القانون المقترح كما ورد علي لسان البهوات وظيفته (تجريم من يسيء لسمعة مصر علي الفضائيات).. وتجريم في القاموس البلدي معناها (كخ!!).. يعني هذا القانون سيقرص أذنًا أو يقطعًا لسانًا أو رقبة الوحشين الذين يتجرءون علي كشف الفساد في مصر، وبث أخبار المظاهرات والاعتصامات في مصر، وأوضاع الفقراء المتردية في مصر... سعادتك أيها الصحفي ممكن تتكلم مثلاً عن الاحتجاجات علي الانتخابات الرئاسية في إيران، لكن مصر، حذاري! مسموح لك أن تناقش بالتفصيل أخبار التمرد في اليمن، لكن مصر، إوعي!! إذا قلت إن مصر زي الفل وكله تمام وعشرة علي عشرة، ومفيش أحسن من كده، إذن فأنت وطني وبتحب مصر، وبتغنيلها وبتشرب من نيلها.. أما إذا أردت أن تتجاوز هذا الخط الأحمر ولو بخطوة واحدة، فأنت تشعل الفتن، وتزعزع الاستقرار، وتهدد الأمن القومي، وتنشر غسيلنا القذر علي الملأ.... الاتهامات جاهزة، وها هي القوانين تطبخ علي البوتاجاز!!
قد يقول قائل: هوا الصحفيين إللي بيقبضوا بالعملة الصعبة دول مش شايفين غير السلبيات؟ مفيش إيجابيات في بلدنا؟ وأطمئنه بعد أن أربت علي كتفه بحنية وأقول: بالطبع لدينا إيجابيات... خذ مثلاً هذه العبارة إللي ممكن أن تبدأ بها موضوع تعبير يجنن علي شاشة الفضائية الرسمية: (مصر.. بلد الأزهر الشريف).. إنجاز يفخر به الإعلام الحكومي دائماً في وجه الأعداء.. ويذكره المذيع عادة بعد أن يتلعثم قليلاً علي طريقة (شفيييق يا رااااجل)، ليحسم به جدلاً عقيماً مع من يشكك في ريادة مصر.. لا يهم الحال الذي آلت إليه هذه المؤسسة الدينية العريقة، وتمسحها في جلباب الحكومة، لكن الأزهر مكتوب ومطبوع في البطاقة الشخصية لمصر ولا يمكن إنكاره، وعلينا استثماره في مثل هذه المناسبات.. خذ هذه أيضاً: (مصر انتصرت علي إسرائيل في حرب أكتوبر).. لا يهم التنازلات التي قدمناها، وأسرانا الذين بعنا دماءهم، وآثارنا التي ضيعناها، والغاز الذي نفرط فيه لإسرائيل كل يوم برخص التراب.. المهم أننا (انتصرنا بالضربة الجوية القاضية)، وعلينا أن نكرر هذه العبارة للأبد! ومتنساش (توشكي).. إنجاز آخر يتكئ عليه النظام كلما حوصر بأسئلة عن الأراضي المهملة والمنهوبة، واستيراد القمح، والبطالة.. لقد راهن النظام بأكمله علي هذا المشروع رغم أن البعض وأنا لست منهم لا يزال يتوقع أو يتمني له الفشل.. والإعلام مع ذلك يعاود التباهي بهذا الإنجاز في كل المناسبات.. تماماً كالمريض الذي شكا لطبيبه من قصره في أحد الأفلام الكوميدية القديمة، فنصحه الطبيب أن يردد: أنا طويل وأهبل، أنا مش قصيَّر أزعة... إلي أن تطول قامته!!... شفتو إزاي؟ الإنجازات كثيرة، بلاش بقي افترا...!!
وغير بعيد عن صاحبة الجلالة، يأتي فيلم (الغابة) للمخرج أحمد عاطف ضمن قائمة (الأعمال المسيئة لسمعة مصر).. كنت قد قرأت نسخة السيناريو لهذا الفيلم المهم قبل أكثر من عشر سنوات.. ظل المخرج الدءوب منذ ذلك الحين ينشد تمويلاً من داخل مصر وخارجها يليق بالفكرة التي تنزع النقاب بشجاعة عن حياة أطفال الشوارع في بلادنا، إلي أن فاز السيناريو الذي أضاف إليه ناصر عبدالرحمن لمساته السحرية بجوائز مالية في مسابقات أوروبية غطت مع قرض بنكي تكاليف الإنتاج، وطاف الفيلم العالم ونال العديد من الجوائز.. هنا انتبه المتحزلقون في مصر إلي قضية أطفال الشوارع، لكنهم لم يفعلوا ما تمناه أحمد عاطف من الفيلم، فلم يطالبوا بسن قوانين تحمي هؤلاء الأطفال، أو تخصيص ميزانية لرعايتهم وعلاجهم، وإنما قالوا لأحمد عاطف: إخص عليك! كده تشوه سمعة مصر؟ وكأن علينا أن نتفرج علي مآسينا بلا انفعال.. وكأن علي الموهوبين فينا أن يفصّلوا وطنيتهم علي مقاس الحكومة، وكأن أطفال الشوارع مادة للمساومة، علي من يحرص علي وطنيته في نظر الحكومة أن يغمض جفنه عن مأساتهم الأبدية، وطظ فيهم! وطنيتي أهم من الطفل الذي ينام عارياً في ليالي الشتاء الباردة، وطنيتي أغلي من عصافير بطن صبي جائع لا تكف عن الصوصوة بينما نلتهم نحن الوجبات الفاخرة متبوعة بالعصائر الطازجة، ولو مش طازجة سينال النادل عقابه.. وطنيتي أهم.. ومن بعدها يأتي الطوفان، وكله يخاف علي وطنيته!! ووطنيتنا حماها الله علي رأي محمد ثروت..
في الصباح نفسه الذي أنهيت فيه مشاهدة فيلم (الغابة)، صادفت صحفياً معروفاً باهتماماته السينمائية، وفوجئت بأنه يستنكر علي الفيلم أن يشارك في المهرجانات الدولية، بل قال إنه كان يأمل في منع خروج نسخة الفيلم من مصر أصلاً لأنها تلوث كرامة المصريين وتكشف عوراتهم!!
عندما تأملت فيما قال الزميل، التمست له العذر، فهو علي الأقل من جيل الشباب الذي لا يستطيع ركوب طائرة إلي أسوان، ولم يتربّ علي النقد والمحاسبة اللتين يتغذي عليهما إعلام الدول المتقدمة، الدور والباقي علي الأساتذة الكبار الذين ذابت نعالهم علي أرصفة أوروبا وأمريكا، لكنهم مع ذلك ما زالوا يعتبرون أن مجرد الإدلاء بتصريح لقناة فضائية عربية (يعني مش إسرائيلية) هو مخالفة للمبادئ وقد تعد خيانة.. الكاتب الكبير أنيس منصور قابلني بحفاوة في الإمارات قبل عدة سنوات، وأبدي إعجابه ببرنامج كنت أقدمه هناك في ذلك الوقت، فانتهزت الفرصة ودعوته ليحل ضيفاً علي البرنامج، هنا أسدل جفنيه ورفع حاجبيه في تعفف وقال: أحاديث علي التليفزيون المصري آه.. قنوات عربية لأ..! ولم أفهم لماذا إذن قبل الكاتب الكبير دعوة دبي للمشاركة في إحدي فعالياتها الثقافية إذا كان يعتبر أن إعلام الدول العربية خصم يتربص بمصر؟. في الوقت نفسه فاجأتني به المفكرة الجليلة صافيناز كاظم عندما عرضت استضافتها علي بي بي سي ذات مرة فضغطت علي أضراسها وهي تقول: آسفة.. أنا ما بكلمش قنوات أجنبية! عادت بي في تلك اللحظة إلي عام 1996 عندما منحني وإياها الكاتب الراحل مصطفي أمين جائزته الصحفية، وكان عمره وقتها قد تجاوز الثمانين، لكنها مع ذلك غطت كفها بالحجاب وهي تمد ذراعها لتتسلم منه الجائزة، فطلب منها مازحاً ألا تغالي في تطبيق مبادئها..
الغريب أن أياً ممن يوزعون الاتهامات بتشويه سمعة مصر في الخارج لم نسمع منهم ولو كلمة عتاب واحدة لمن تسبب من الإعلاميين في مهزلة مصر والجزائر.. أحد الإعلاميين علي التليفزيون المصري شكت له سيدة علي الهاتف من أن بعض المشجعين الجزائريين في الخرطوم كانوا يفتحون البنطلونات ويعملون «حاجات غريبة كده».. فيرد الإعلامي ابن الإعلامي متندراً: هم عندهم حاجة يطلعوها..!! آه والله العظيم قال هذا الكلام علي الهواء في تليفزيون جمهورية مصر العربية.. ولم يقل له أحد من هؤلاء: إخص عليك.. لقد شوهت سمعة مصر وإعلام مصر!! بقي لما نبحث عن نافذة نكشف من خلالها القصور والفساد في وطننا نصبح مأجورين وبنشوه سمعة مصر، وعندما نتقيأ بألفاظ وتصرفات علي إعلام بلادنا لا تليق بقدرنا ومكانتنا أمام أنفسنا وأولادنا علي الأقل نصبح شطاراً ونقدم مزيداً من البرامج؟
أطرف ما تفنن فيه أصحاب هذه النظرية المبدعة، وأهدوه للإعلام الرسمي كي يروجه، هو الادعاء بأن هؤلاء (المسيئين لسمعة مصر) إنما يحيكون أو ينفذون بالفعل مؤامرة دنيئة ترمي إلي التأثير في أجور العمالة المصرية في الخارج!! يعني أحمد عاطف يدافع عن الغلابة في شوارع مصر عشان يؤذي الغلابة خارج مصر.. وصحفية الجزيرة تدافع عن انتهاك آدمية المواطنين في أقسام الشرطة بمصر، كي تقطع عيشهم وتؤثر في أرزاقهم في بلدان أخري.. وأول من سيصدق هذه الأكاذيب المحترفة بالطبع هم الغلابة أنفسهم.. وبالتالي سيُعرِضون عن أعمال هؤلاء المسيئين، ويديرون وجوههم إذا أطلوا عليهم من إحدي الشاشات، يطالبون بحق مسلوب أو يفضحون فساداً مستوراً..
علينا أن نعترف بأن إعلامنا موهوب.. يضع بجدارة من يجسر علي قول الحقيقة في قفص الاتهام، ويرغمه علي الدفاع عن نفسه أمام حملات التشهير المنهجية، حتي تخور قواه وينهكه الرد علي الأكاذيب، فيحيط به اليأس ويؤثِر الاستسلام، ثم ينبري هذا الإعلام الخلاق في كسر قواعد المهنة، فيأتي بمرتضي منصور علي الشاشة ليكرر شتائم شوبير له بألفاظها الجارحة، حتي لو كانت بأحرفها الأولي.. وقبلها يلوث الإعلام أسماعنا بأقذع السباب ضد الجمهور والصحافة الجزائرية.. ثم لا يسمح لأحد بانتقاده أو نصحه! بالله عليك يا من تبقت لديه ذرة عقل: أي الفريقين يشوه سمعة مصر؟ وأيهما يتقي ضميره في وطنه وشعبه؟
باختصار أيها المزايدون بسمعة مصر إن ما يهم أمثالي هو أن يعلم الجمهور ما خفي عليه بأمانة وموضوعية.. سواء من خلال نافذة مصرية أو عربية أو حتي أجنبية.. فالمعلومة ليست لها باسبور، والوطنية ليست لها عنوان...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.