لم يكن يخطر ببالي أن أكتب عن رفيقة دربي وشريكة حياتي زوجتي، فليس ذلك من عادة الكتاب، وقد يفعلون ذلك بعد رحيل زوجاتهم، ولكنه الوفاء الذي تعلمته من ديني وحضارتي وعقيدتي، فقد كرمهن الله في كتابه العزيز بأسمائهن لفضلهن ومكانتهن. ولماذا أهمل حقها، وقد تعاتبني في هذا، وهي صاحبة حق، ورفيقة درب، وصاحبة فضل وتحملت معي الكثير، ولله الحمد فهي لا تتذكر لي إلا مرات معدودة علي أصابع اليد الواحدة التي قد أكون أغضبتها فيها؟ كانت المرة الأولي التي تراني فيها حبيسًا مقيدًا أمام المستشار وفيق الدهشان في حجرته بمقر «المدعي العام الاشتراكي»، فقد ودعتني وودعتها ليلة الثاني من سبتمبر 1981م الشهيرة إلي سجن الاستقبال بطرة لأنتقل منه في حوالي 16/17 أكتوبر 81 إلي سجن المرج لتحقيقات مرهقة وتعذيب بدني شديد مع حلمي الجزار وأحمد عمر وأحمد أبو الفتوح في قضية اغتيال السادات، ثم عدت للاستقبال من جديدة في 31 أكتوبر 1981م لأجد الجنود الذين كانوا يحترموني ويوقروني يقابلونني بأشد ألوان الإيذاء البدني والضرب والتنكيل، ويقوم أحدهم بتشويه لحيتي آنذاك وتشويه شعر رأسي، كل ذلك وليس لي إلا ثوب واحد أتنقل به من سجن إلي سجن لأنتقل مباشرة بعد ليلتين سوداويتين إلي سجن القلعة لموجة جديدة من التعذيب البشع في نفس القضية أو قضية الانتماء، ومن القلعة في حوالي 20 نوفمبر، وفي أشد حالات الإعياء والإرهاب أذهب إلي المستشار الدهشان لأفاجأ بالمحامين يستأذنون في دخول زوجتي فاطمة فضل وأمي سارة أبو حمود لزيارتي، يا إلهي، وأنا في هذه الحالة المزرية، لكنها إرادة الله. وكانت أمي - رحمها الله - صلبة جلدة، علمتها الحياة القوة وعلمها الإيمان العزة والثقة بالله، فنزلت كلماتها علي قلبي بردا وسلاما، لا تخشي شيئا فأنت مع الله، والله معك. أما زوجتي فقد عرفت زيارة السجن منذ 1974 (قبل سبع سنوات) فقد اعتقل شقيقها د.صلاح الدين فضل (رحمه الله وغفر له) في قضية الفنية العسكرية.. ومكث بالسجن 18 شهرًا قبل الحكم ببراءته، ظلت صامتة ساهمة، اكتفت بكلمات أمي وهي تتمتم بالدعاء لي، وتحاول أن تتأمل ملامحي الشاحبة المنهكة من السجون والتعذيب والتحقيقات التي طالت بين سؤال وجواب لمدة 3 أيام أو يزيد حتي نام الأستاذ محمد عطية خميس - رحمه الله - علي كنبة بالحجرة، وكانت حاملا في ابني يوسف في الشهر السادس أو السابع. وولدت يوسف وأنا في السجن، فقد انتقلت إلي ليمان أبي زعبل (القسم السياسي الأول) وعانت من مرضه السريع ثم وفاته المفاجأة، فاحتملت آلامها وكتمت معاناتها واعتصرها الحزن: الزوج في السجن والابن في اللحد، لا تدري ما يفعل النظام بنا بعد اغتيال السادات، وتزورني في الليمان حيث المسافة البعيدة ومشقة الطريق ومعها ابنتي البكر «سارة»، صغيرة لم تتجاوز السنتين لا تدري من أمر الدنيا شيئا. صمدت طوال السنة القاسية، وخرجت فجأة في 29 أغسطس 1982 لأفاجئها بتليفون أنني في الطريق وأن تستعد لزيارة أمي وأهلي في بلدتي «ناهيا» بعد الراحة القليلة، ثم توالت الأيام لتكون زياراتها لي مع أولادي الأربعة الذين تحملت مسئولية رعايتهم الكاملة وتربيتهم المتميزة إبان قضائي 5 سنوات بحكم المحكمة العسكرية تطل فيها عليَّ كشمس الضحي، ضاحكة باسمة واثقة في الله، لا تشكو ولا تتعب، يمنعونها أحيانا من الزيارة فلا تيأس، ونطلب منها كثير الطلبات فلا تتأخر ويتعبها الأولاد في دراستهم فلا تشكو. عرفت معي حلو الحياة، فلم نشعر بأي مرارة، طافت معي أرجاء الدنيا في إيطاليا وبريطانيا وفي الحج والعمرة، كما جالت ورائي سجون مصر من طرة إلي أبي زعبل. كانت لي بوصلة هادية، تذكرني بالإخلاص التام لله، ناصحة مشفقة، قبل أي برنامج أو نشاط أو زيارة. هي مستشارتي في معظم شئوني، وغالب نشاطي، والرقيب الوحيد الذي قد يقرأ كتاباتي قبل نشرها، وغالبًا ما أستجيب لنصحها، فهي الضمير الحي المكمل لضميري الداخلي، روح واحدة استقرت في جسدين. لا تحب الظهور ولا التقدم ولا الذكر بين الناس، ولعلها لا تغضب مني أو تلومني بسبب هذا المقال الذي ادخرته طويلا ليأتي في هذه المناسبة التي لم أخترها، أمنيتها الأساسية أن يتم رفع الحظر عن السفر لتتمتع معي برحلات العمرة أو الحج حيث سافرت خلال السنوات الماضية مع الأولاد وحدها، وتريد مني أن أرافقها، ولا أحب أن أستأذن أحدًا ليسمح لي بحق كفله الله لي، وهو حق السفر والتنقل، فلست عبدا إلا لله وحده، وإذا أراد فسيكون ما يريد. سعادتها في بذل الخير للفقراء، وأمنيتها أن تقيم مشروعا للإسكان البسيط للشباب المقبل علي الزواج. وقتها مع القرآن، رغم تعثرها في الحفظ طوال تلك السنوات، ليلها في القيام والذكر، تصحو وأنا نائم، فإذا استيقظت لوردي قبيل الفجر، تطلب مني أن أنبهها عند الأذان، أو عقب عودتي من المسجد إذا لم أواصل طابوري الرياضي. تزوجتها منتقبة، وظلت كذلك حتي كانت قضيتي العسكرية عام 1995م، فسألتها: هل لن أري وجهك إلا خلف النقاب؟ فقررت ترك النقاب وقتها بإرادتها الحرة. لم تكن تعمل وهي الحاصلة علي بكالوريوس التجارة من جامعة القاهرة، فاقتنعت بعد حوار قصير بأهمية العمل في التدريس واختارت مادة التربية الإسلامية. قررت الالتحاق بالدراسة الأزهرية عندما فتح المغفور له الشيخ جاد الحق علي جاد الحق باب الانتساب للدراسة بالأزهر، فاقتنعت بالالتحاق بكلية أصول الدين قسم العقيدة والتحقت أنا بكلية الشريعة، قسم الشريعة الإسلامية، وسبقتني في الدراسة وأنهت دراستها أثناء وجودي بالسجن عام 1998، بينما أخرتني المحاكم إلي عام 2000م. نختلف أمام التلفاز، تريد قنوات المشايخ: الرسالة، والناس.... إلخ، وأريد مشاهدة آخر النشرات والأخبار أو البرامج السياسية والفكرية. ألح عليها بضرورة الترشيح لمقاعد البرلمان، فهي لها شعبية كبيرة في المنطقة، ومؤهلة للعمل العام، وترفض بشدة. عارضتني بقوة عندما دعتني نقابة الفنانين للقاء معهم عام 1989م أثناء نظر قانون خاص بهم، وكانت بعض الفنانات بزعامة تحية كاريوكا معتصمات بمقر النقابة. وتحفظت علي دعوة بعض الفنانات لي لإلقاء دروس بمنازل البعض، واستجبت في المرتين لطلبها فلم أذهب إرضاء لها، ومن يستحق بعد الله أن أرضيه سواها. رحلة عمر، وذكريات جميلة، وشقاء لذيذ، وتعب نستعذبه معًا طالما كان ذلك كله ابتغاء وجه الله تعالي. أسأل الله أن يختم لنا بخير ويحفظنا وأولادنا من كل سوء وشر، ويجمعنا في جنات النعيم في الفردوس الأعلي، ويدخلنا في زمرة عباده الذين قال فيهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور:21) آمين.