حين قررت وزارة الداخلية إعادة انتخابات دائرة الجمرك والمنشية بعد ثلاثة أعوام من موعدها الأصلي، فوجئ المواطنون بإغلاق كل اللجان الانتخابية وإحاطتها بحصار من السادة الضباط والسادة الأمناء والسادة الجنود، بحيث لا يتمكن أي شخص من دخول أي لجنة، ولا يستطيع أيضا مواطن الوصول إلي منزله إن كان هذا المنزل يجاور إحدي اللجان الانتخابية الواقعة تحت حصار الشرطة. في هذه الدائرة كان الأستاذ جلال عامر مرشحا عن حزب التجمع، وبعد ساعتين من بداية اليوم الانتخابي حاول دخول اللجنة المقيد بها للإدلاء بصوته لكن السادة الضباط منعوه من الدخول رغم البطاقة الانتخابية والبطاقة الشخصية ورغم تأكيده لهم بأنه أحد المرشحين المتنافسين علي مقعد الفئات، ورغم أنه شخصية معروفة لقراء الصحف ومشاهدي التليفزيون! حاول الأستاذ جلال دخول اللجنة بعد ساعتين أخريين ولكنه وجد كل قوة الحصار تؤدي صلاة الظهر - جماعة - خلف أحد السادة كبار الضباط، وبعد انتهاء الصلاة، توجه إلي القائد الإمام وطلب منه دخول اللجنة للإدلاء بصوته، فقال له الضابط التقي وهو يداعب السبحة استكمالاً للصلاة: إن الانتخابات انتهت منذ الصباح الباكر، وأن صوته لن يقدم أو يؤخر! قال له جلال عامر إنه أحد المرشحين فابتسم الضابط، وقال له إن هذه الصفة لا تمنحه حق دخول اللجان لأن «الموضوع انتهي خلاص، واتفضل بقي يا عم الحاج، أنت راجل كبير وما يصحش تبهدل نفسك معانا»!! وفي انتخابات المجالس المحلية لم تسمح الحكومة للمرشحين بالتقدم للانتخابات من الأصل! ولم يكن مسموحاً لأحد باستخراج أوراقه أو تقديمها لمديريات الأمن إلا لو كانت مباحث أمن الدولة قد سجلت اسمه كأحد الناجحين في الانتخابات التي لم تبدأ بعد!! وفي كل الانتخابات التكميلية أو الاستكمالية التي تمت خلال السنوات الخمس الماضية لم تكن هناك لجان أو أصوات أو فرز أو نجاح أو سقوط أو أي شيء من هذه الأمور التراثية، ولكن كانت الحكومة تكتفي بتفويض المباحث في إعلان فوز المرشح المطلوب دون أن يحصل علي صوت واحد حقيقي من خلال ناخب حقيقي وانتخابات حقيقية. ولم يكتف النظام المصري بإفساد العملية الانتخابية من خلال سوء الاختيار وبيع الأصوات وتزوير الصناديق، ولم يكتف بالعوار الدستوري الرهيب الذي يمنع مجلس الشعب والمجالس المحلية من أداء أي دور حقيقي في مواجهة رئيس يملك كل شيء ويتحكم في كل شيء ويضرب عرض الحائط بالمصالح الموضوعية للوطن، لم يكتف النظام المصري بكل هذه السوءات ولكنه أضاف إليها مؤخراً إلغاء الإشراف القضائي ثم إلغاء الانتخابات نفسها - واقعياً - بمنع الناخبين والمرشحين من دخول اللجان! هذه الحالة - أو المسخرة - التي نعرفها كلنا تتنافي مع الدعوة لإنشاء مجلس شعبي لمراقبة نزاهة الانتخابات، فالواقع أن مصر حاليا لم تعد بها انتخابات وإنما صارت هناك تعيينات تتم من خلال المباحث والنظام والحزب الوطني ويختارون فيها أسوأ العناصر لاحتلال المقاعد البرلمانية والتربح من العضوية بأقصي درجة ممكنة، ولم يعد بوسع أي مواطن شريف التقدم لمثل هذه الانتخابات لأن الحكومة لن تسمح له أصلا بمثل هذا التقدم، ولو سمحت له فإنه لن يتمكن من تدبير الملايين المطلوبة للأجهزة المختلفة حتي تفضله علي المنافسين وتمنحه الأصوات المزورة اللازمة للنجاح! هذه الحالة - أو المسخرة - تؤكد صحة توجهات الدكتور البرادعي الذي يرفض - حتي الآن - خوض الانتخابات الرئاسية وفق المواد الدستورية التلفيقية المفروضة علي الناس، ووفق سيطرة وزارة الداخلية بالكامل علي العملية الانتخابية وقدرتها علي إغلاق اللجان والإطاحة بالناخبين والمرشحين والمراقبين وكل أدواتهم وحقوقهم. المفروض أن يحتشد الناس لمواجهة النظام الحالي وإجباره علي الرحيل أو تعديل الدستور، والمفروض أن تتخلي وزارة الداخلية عن إدارة العملية الانتخابية وتترك هذه المهمة لحكومة انتقالية بعيدة تماما عن الحزب الوطني الذي يستحيل أن تتم من خلاله أي إصلاحات إيجابية في الوقت الراهن أو أي وقت مقبل، والمفروض أن يكف الناس عن الذعر الكاذب من جماعة الإخوان التي يزعم النظام المصري أنه يزور الانتخابات لمنعها من حكم مصر، والمفروض أن تكف جماعة الإخوان عن المطالبة بدولة دينية وتنضم للقوي السياسية المدنية في الدعوة لإصلاح دستوري وديمقراطي تتحول به البلاد من وطن لقطيع من العبيد إلي وطن للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، يسترد فيه الشعب كرامته وحريته وآدميته وكل حقوقه التي أضاعها الاستبداد والفساد والتخلف علي مدي قرون طويلة وعصور انحطاط لا تنتهي المفروض الآن أن يبدأ حوار عاقل بين البرادعي ومؤيديه وبين النظام السياسي الحالي، ويتعهد فيه كلا الطرفين بإصدار عفو عام حال نجاح أي منهما في الوصول إلي السلطة، وذلك في مقابل تعديل الدستور المصري تعديلاً حقيقياً تتقلص فيه صلاحيات رئيس الدولة ومدة حكمه فضلا عن ضرورة الفصل بين السلطات وتحويل الدولة من النظام الرئاسي الاستبدادي إلي النظام البرلماني أو علي الأقل المزج بينهما دون استئثار أي منهما بسلطات مطلقة في مواجهة الآخر أو الشعب أو البرلمان. ولو رفض النظام المصري الحوار مع قوي المجتمع الحقيقية وصولاً إلي حلول موضوعية عادلة لأزمة البلاد، فإن كل الخيارات سوف تكون مفتوحة أمام كل الأطراف، وعلي الناس آنذاك أن تشارك في تقرير مصيرها، وإن اختاروا الاستمرار في العبودية فهذا شأنهم، وليبحث الشرفاء عن وطن آخر أو يتقوقعوا في «جيتو الصحف المستقلة» إلي أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً! لجنة نزاهة الانتخابات وسائر الحركات الإصلاحية التكتيكية الأخري تشبه شخصاً لم يستحم منذ ثلاثين عاماً ويريد الآن أن يضع علي ملابسه بعض «البرفانات» حتي يتغلب علي الروائح الكريهة المنبعثة من جسده! المفروض أن نستحم أولاً ثم نبحث بعد ذلك عن التطيب بالعطور، المفروض أن نتمكن أولا من دخول اللجان الانتخابية ثم نبحث بعد ذلك عن نزاهة الانتخابات!