كما تحتفظ الذاكرة بالوجوه، فإنها تحتفظ أيضًا بالمذاق، وبالروائح... أشياء تختفي لكنها لا تزول بل تصبح أكثر بقاءً في التفكير وفي الذاكرة وفي الوجدان. أحيانا أتذكر شكل ومذاق فاكهة كنت أجدها في طفولتي ولكنني لم أعد أسمع عنها أو أراها، لدرجة شككت فيها أنها كانت موجودة من الأساس.. وتصورت أن تلك الفاكهة من نسج خيال الطفولة. خاصة أن ما أتذكره أنها كانت بنفسجية اللون!.. وكلما ذكرت ذلك لأحد تعجب وشكك في وجودها. فاكهة الممبوزيا، هكذا كانت تسمي، كنا نقطفها من شجر طويل مثل النخل، وعندما تنضج يصبح لونها بنفسجيًا وطعمها (مزز). احتفظت ذاكرتي باللون وبالطعم، وبالذكريات المرتبطة بها من تسلق شجرتها في حديقة المنزل ومحاولة قطف الثمار وتناولها دون غسلها كنوع من المغامرة. تحتفظ ذاكرتي أيضًا بملامح الجنايني وبشرته السمراء المشربة بالحمرة، وكفه الكبير المشقق، وطيبته وعلمه الواسع عن أنواع الأشجار والثمار. الذاكرة قد تنسي لكنها لا تخدع، في جزيرة النباتات في مدينة أسوان التي زرتها لأول مرة في مطلع العام، التقيت جناينيًا يشبه الجنايني الذي أحتفظ به في ذاكرتي، نفس الطيبة والابتسامة والبشرة السمراء، رحب بنا وشرح لنا أنواع أشجار الفاكهة الاستوائية ومنها شجر الممبوزيا!!! قال الجنايني إن شجر الممبوزيا كان يزرع في الفيلات، والفيلات أصبحت مدارس بعد الثورة. ولهذا عرف الكثير من التلاميذ الصغار ثمار الممبوزيا البنفسجية!!! كانت فرحتي بلقاء الممبوزيا من جديد فرحة استثنائية لقد أعاد لي هذا اللقاء جزءًا من طفولتي وتكويني. لاحظت أيضًا أن الجنايني الأسواني الذي تحدث إلينا لديه شارب كثيف أسود، وأن الشارب كاد أن يختفي هو أيضًا من وجوه معظم الرجال المصريين... ففي مسرحية لفؤاد المهندس عندما أراد أن يميز شخصًا بعينه ويحدد ملامحه كان يقول إنه «من غير شنب» لأن غالبية الرجال وقتها كان لديهم شوارب.. الآن ولأن الكثير من المصريين تخلوا عن الشنب أصبحنا علي العكس، عندما نريد أن نميز شخصية ما نقول «اللي عنده شنب» علي اعتبار أنه ملمح أصبح نادرًا ومميزًا. نسينا الشنب وما ارتبط به في الذاكرة من صفات الرجولة والكرامة.. لكن الوجوه السمراء في أسوان التي تحتفظ بعادة تربية الشارب، أعادت لي ذكريات وأحلام الطفولة.. كنت أحلم بأن أتزوج رجلاً يشبه أبي: أسمر ذو شعر وعيون سوداء، وشارب. اختفي الشارب - تقريبا - كما اختفت ثمار الممبوزيا...المدهش أننا لا نشعر بالتغيير، إلا عندما تصطدم صور الواقع مع الصور المحفورة داخلنا. تختفي الأشياء والأشخاص من الصورة لكنها لاتزول ولا تنسي... فبعد حرب أكتوبر 1973. اختفت صور جمال عبدالناصر، كما اختفت سيرته وأعماله عن شاشة التليفزيون المصري وجميع وسائل الإعلام الرسمية وتصور البعض أن هذا الحظر سينسي الناس عبدالناصر. لكن بعد وفاة السادات ورفع الحظر، كنت عندما أسير في الشوارع فأجد زحامًا وتدافعًا، وأتطلع أكتشف أنه بائع معه صور ناصر التي عادت إلي الظهور من جديد، وأن الحنين دفع بالناس إلي التدافع للشراء. وفي جميع المظاهرات التي خرجت للشارع في مصر منذ السبعينيات وحتي يومنا هذا، يرفع شباب في العشرينات من عمرهم، ولدوا بعد وفاة عبدالناصر بعقدين أو أكثر، صور ناصر.. ويهتف عمال الشركات التي استولي عليها المستثمرون الأجانب «نادوا وقولوا يا عمال، فين أيامك ياجمال». وفي الفن شباب لم ير عبدالحليم حافظ أو أم كلثوم، يشترون أشرطتهما ويحفظون أغنياتهما ويلمسون صدق إحساسهما ويحتفون بذكراهما. يتصور البعض أن التكرار والإلحاح وفرض الصور والتصور هي السبيل إلي عقول ووجدان الناس.لكننا نختار ما نحتفظ به وما نهمله. الذاكرة تنتقي ويترسخ لديها الشيء الأصيل فقط، وليس الضجيج الذي يحاصرها ليل نهار. الناس قد تصمت أو تتشاغل لكنها لا تنسي.