مقطعان من رواية «صالح هيصة».. رائعة عمنا.. الكبير.. خيري شلبي عن الغرز والتحشيش والحشاشين والسطل والأنفاس سكة نافذة لغرزة حكيم مداخل كثيرة.. يمكن الدخول إليها من شارع رمسيس.. وهنا يتعين عليك أن تمر علي غرزة جلال، هذا أمر محرج في الواقع، فغرزة جلال منافسة للغرزة التي نفضلها، هي عبارة عن مقهي مبني بالخشب والبوص وسط هديم علي مساحة كبيرة، البيوت من حواليها بامتداد شارع معروف وشارع رمسيس معا آيلة للسقوط رسمياً في دفاتر الحكومة، انتهي عمرها منذ أكثر من نصف قرن مضي، وصدرت أوامر مشددة بإخلاء كل هذه البيوت التي لم تفقد رغم الشيخوخة جمال طرزها المعمارية البديعة حيث كل بيت يعتبر تحفة معمارية ثمينة لكنها أصبحت كعزيز قوم ذل فلم يجد بين البشر الأخساء من يرحمه. السكان لم يجدوا بديلاً فبقوا في بيوتهم علي مسؤوليتهم وسجلت البيوت في دفاتر الحكومة علي أنها مجرد هديم يخلو من السكان وذلك علي الرغم من تكرار وقوع البيوت بالفعل كل حين أمام الجميع وفوق شاغليها، بل إن سكاناً جددا جاءوا فاستولوا علي الهديم نزعوا حديده وخشبه، أقاموا بها في المساحات الفارغة عششاً للسكني ومحال للبيع والشراء وغرزاً للتحشيش وورشاً للدوكو والمفاتيح والسمكرة، وكان رائدهم في ذلك هو المعلم جلال صاحب أشهر غرزة في وسط المدينة إن لم يكن في المدينة كلها بجميع ضواحيها، سيما وأن الشعب المصري لديه ولع غريب بشخصيات الخارجين علي القانون المتسلطين القساة، ويجد الكثيرون لذة كبري في الانصياع لأوامره والخضوع لسيطرته، بل ربما يزايدون علي بعضهم البعض في اكتساب وده، ربما اتقاء لشره، وربما للاستقواء به في أمر من الأمور. المعلم جلال أشهر حرامي خزن في مصر، خارج من مؤبد، مستعد لفتح كرش أي ضابط شرطة يعترض طريقه أو يعاكسه في رزقه أو حتي يناوشه، جميع ضباط الشرطة يخشون بأسه ويأسه، تركوه يفتح هذه الغرزة أفضل من فتح الكروش وكسر الخزائن، غرزته جميلة فعلاً، نظيفة، منضبطة، تأخذ شكل المقهي بما يتوافر لها من كراسي ومناضد بمفارش ملونة مصفوفة داخل العشة الكبيرة الواسعة كملعب الكرة وخارجها، لها نصبة مبنية بالرخام والقيشاني مزودة بأفخر الأكواب والبراريد والصواني النحاسية والطقاطيق والنرجيلات للمعسل فحسب فضلاً عن الجوزات للتحشيش الصرف، الصبيان الذين يخدمون الزبائن علي شيء من النظافة وحسن الخلق ينطوون علي خشونة وعجرفة وغطرسة مستمدة من شعورهم بقوة معلمهم وسطوة نفوذه، يرفعون سعر الحجر إلي قرش صاغ بدلاً من قرش تعريفه يعني ضعف سعره في الغرز الأخري، والشاي إلي قرشين وذلك في زعمهم للمحافظة علي مستوي الزبائن وطرد الواغش. استطاع المعلم جلال بكياسته وخبرة السجن المؤبد أن يجتذب نوعيات منتقاة من أنظف الزبائن وأميلهم إلي الرصانة والمظهرية، من صحفيين وفنانين وموظفين كبار في القطاع العام، ومساتير التجار، وأبناء ضباط الثورة الموسرين الذين حلوا محل أبناء الباشاوات يدفعون البقشيشات بغزارة غير مفهومة المصدر.. فيحظون بخدمة تميزهم عن غيرهم، وعلي غيرهم الانتظام حتي ينتهي الصبيان من خدمة البكوات علي راحتهم، ومن لا يعجبه فالباب عدم المؤاخذة يفوت الجمل، الكثيرون من الحشاشين العتاة ومن بينهم شلتنا ينفرون من غرزة جلال وإن كانوا من أصدقائه بل ويحصلون إن حششوا عنده علي أحسن حظ من الخدمة المتميزة ولكن في أثناء وجوده فحسب، أما في حصة النهار حيث يكون هو في سابع نومة فيخضعون لمزاج العيال الصبيان، وإنهم لمن الخبثاء الملاعين، تنكسر عيونهم بالفلوس وحدها. وجهة نظر شلتنا أن التحشيش في مقهي عام، أو ما يشبه المقهي العام، يختصر من المزاج نصف المتعة يؤخر وصول الدماغ إلي مرحلة الفل، حيث الشرب بطيء جداً بحكم الزحام، الحجارة تجيء عشراً عشراً مهما كان عدد الشلة كبيراً، الواحد لا ينوبه من الطرحة إلا حجر واحد، فإلي أن تجيء العشرة التالية ويتم تغيير ماء الجوزة وطحن النار في المصفاة تكون الأنفاس السابقة علي ضآلتها قد تبخرت من الدماغ، فإذا صاح أحد في استعجال الصبي أو في طلب جوزة إضافية ردوا عليه في برود بأن الصبر حلو، وأن الله مع الصابرين، وأن الدنيا ما طارت بعد ولن تطير، وأن كل تأخيرة وفيها خيرة، إلي آخر هذه الردود الجاهزة المثيرة للغيظ والغضب، عمال بلطجية مسحوبون من ألسنتهم الخشنة العمياء، ثم إن الراديو عندهم مفتوح بأعلي صوته لا سبيل لتخفيضه لأن الجميع من حقه أن يسمع، في الوقت نفسه من حق الجميع أن يتكلم، وفي ظل الراديو الصادح لا كلام إلا بأعلي صوت، مثل هذا الضجيج يتكفل وحده بتطيير أعمق الأنفاس، يصدع الدماغ مهما كانت التعميرة جيدة، ومن مصلحة المعلم جلال بالطبع ألا تشعر بالانسطال أبداً لكي تظل تشرب وتشرب إلي غير نهاية. أمثالنا من الحشاشين العتاة يفضلون التحشيش في غرزة صريحة، ليست من المقهي في شيء وإن كانت مثلها تقدم شاياً وقهوة ولكن كخدمة جانبية يمكن الاستغناء عنها أو تعطيلها في أي لحظة لأي سبب، وكلما كانت الغرزة أقرب إلي الكهف أو القبو أو الجحر أو الخن لعبت بمزاج الحشاشين وأثارت خيالهم. يضاعف من متعة الحشاش أن يكون جالساً حيثما كان للتحشيش فحسب، محاطاً بتحفظات كثيرة مثيرة، الغرز الصريحة كالبارات لا تشغل نفسها بأي شيء آخر تتسلم الحشاش من لحظة جلوسه بأطقم من الحجارة وراء بعضها في كثافة لا تضيع دقيقة واحدة، وفيها يتخصص العمال، واحد لتنظيف الحجارة، وواحد لتعبئتها بالمعسل، وواحد لتغيير ماء الجوزات، وواحد أو أكثر لخدمة الشاربين حيث يقعي أمامهم علي الأرض ممسكاً الجوزة بيد ومصفاة النار بالأخري يضغط بها علي الحجارة لإحكام الأنفاس وهذا العامل هو أقل الجميع أجرا، لأنه يعتمد علي البقشيشات. سرداب «علي منجة» المدخل الثاني لغرزة حكيم من جهة شارع الانتكخانة، لكن المرور منه محرج هو الآخر، علي ناصيته بازار المعلم «علي منجة»، هو دكان صغير جداً، يبيع السجائر وأنواع الحلويات المغلفة والمياه الغازية، مجرد مظهر فحسب، أما التجارة الحقيقية لعلي منجة فإنها الحشيش والأفيون. المعلم علي منجة رجل أريب مصه الأفيون، لوعته السجون العديدة المتوالية، تعرفه الأحياء القاهرية البعيدة نظراً لحرصه الشديد علي مستوي جودة الصنف، يتخصص في حشيشة من البريمو تعرف بالبودرة الزرقاء، لا يغيرها مطلقاً مما يؤكد أن يتعامل مع مصدر واحد من أصحاب المزارع في لبنان، وذلك أمر يحرص دائماً وأبداً علي تأكيده لدي كل فتفوتة يبيعها لزبون حتي وإن كان الزبون عجولاً وغير معني بمعرفة شيء من هذا. عيب المعلم «علي منجة» أنه يمص دم المشتري بصنعة لطافة وإن كانت ملحاحة سمجة مكشوفة، إلا أنه ناعم وسام كثعبان صحراوي، وجهه في لون الشيح، من فرط هزاله وهروب الدم من وجهه لا تكاد تراه، غليظ الشفتين، متآكل الأسنان، جاف الحلق باستمرار إذ إن السيجارة «الوينجز» التخينة بدون فلتر لا تفارق شفتيه، بصره حاد، متلصص، فيما هو غاطس خلف البنك الزجاجي المزدان ببرطمانات الطوفي والكرملة والفوندام والنعناع واللبان والمصاصة والبمب والبالونات «النفافيخ» يلمح الواحد منا وهو مار في الطريق علي الرصيف المقابل، يختطفه بإشارة جادة حاسمة من ذراعه المعروقة، وبابتسامة تشبه حبة الطماطم المفعصة لكنها مليئة مع ذلك بمشاعر الترحيب ومظهر الشهامة والكرم والوعود البراقة كأنه سيبشرك بخبر سعيد أو سيمنحك هدية ثمينة، يستميلك خطاف هذه الابتسامة ينغرز في عنقك فإن حاولت الابتعاد يوجعك فلا تتملص من باب الذوق علي الأقل هكذا تدلس علي نفسك لابد أن تميل نحوه لكي تسلم عليه بصرف النظر يا أخي كما سيقول لك لابد عن أيها حاجة: «إحنا ما نعرفش بعض غير عشان المصالح ولا إيه؟ دا إحنا رجالة يا جدع؟» ما أن يلمحك تحود عليه حتي يقب ساحباً العكاز تحت إبطه، يمرق من فتحة البنك إلي الثلاجة الحمراء المنصوبة بجوار فاترينة السجاير خارج الدكان، يفتحها متجاهلاً صياحك بأنه لا لزوم للتحية، يزيح قطع الثلج يجس بيده الزجاجات يختبر برودتها لينزع أبردها، في لمح بالبصر، تك اتفضل يا بيه مطرح ما تسري تمري، ويضيف دائماً كتعليق علي قبولك الإمساك بالزجاجة. «بل ريقك! الدنيا حر! نار! ربنا يكفينا نار جهنم». أثناء شربك البطيء للزجاجة الغارقة في الصقيع، يعبث هو بأطراف أصابعه الطويلة خلف أذنه فإذا هي بعد برهة ممدودة إليك وعلي ظفر إبهامها لحسة أفيون ذي رائحة نفاذة بالطزاجة المغوية الرهيبة في آن كطزاجة الخطيئة: «إديني بقك خد البوسة دي» الشائع لدي الأفيونجية المبتدئين أن المياه الغازية تفسد مفعول الأفيونة، والمعلم «علي منجة» دائم السخرية من هذه الغشومية: «صلي علي النبي أمال! الأفيونة الأصيلة مفيش حاجة تفسدها ولا حتي الليمون». أنت تطيل الوقفة مرغماً لتفكر في مخرج من هذه الورطة، ينصحك المجربون من أمثالنا بأنك خلي بالك يعني كلما أطلت الوقوف ازداد تورطك، لأنه في الحال سيعزم عليك بسيجارة محشوة: «دي تعميرة لسه طازجة مانزلتش السوق! ربنا يكرمك ويكون لك نصيب فيها! مش بعيدة علي ربنا»! عملاً بالنصيحة تطلب منه علي مضض ربع قرش، أو حتي تمناية، تعتذر عن ضآلة الطلب بضيق ذات اليد حالياً، ولابد أن تردف هذا بقولك إنك لا تحب الاستدانة ولا تؤمن بالسلفة حتي ولو بمليم واحد، احذر أن تبدو ليناًً أو متردداً في هذا القول، لأنه سيلهيك بالتشجيع: «ما يهمكش الفلوس يا أستاذ! من إمتي كان المدعوقة الفلوس دي لها قيمة؟! إحنا بنعرف بعض عشان الفلوس؟ جري إيه يا جدع ؟ عايز قد إيه؟». هو واثق أن حقه مضمون، فأنت لابد ستشرب هذا الحشيش في واحدة من مجمع الغرز في حي معروف في سرته في رحاب ضريح الشيخ معروف نفسه، هي كلها غرز تحت عيني المعلم «علي منجة» وفي متناول يده في أي لحظة من ليل أو نهار، ما أسهل أن يطب عليك كالقضاء المستعجل في لحظة لا تتوقعه فيها علي الإطلاق، الدفع أو الفضيحة كلاهما صعب ومهين، لو أنك تعرضت للتهزيء في الغرزة مرة واحدة وبسبب الفلوس بوجه خاص فلن تفلح في استرداد كرامتك بعدها مطلقاً مهما بالغت في الإنفاق عن سعة. المشكلة أن «علي منجة» يبيعك الربع قرش بأربعين قرشاً في عز الرخص، في حين تبيعه أم يحيي زوجه السابقة بخمسة وعشرين قرشاً فقط، نفس التعميرة وربما أجود منها بكثير، إضافة إلي أن يد أم يحيي سخية جداً، قطعيتها تملأ العين، تشعرك بالرضا والاقتناع التام بأن هذه القطعة ربع قرش حقاً وفوقه بوسة تزن عشرة حجارة بالراحة، أما هو فيده والعياذ بالله مسممة تقصول الربع إلي حجم حبة الفول التعبانة ملفوفة في ربع فرخ من الورق السوليفان، ومبرشمة بطريقة يستحيل فتحها إلا علي مهل بعد انصرافك حيث لا فائدة ترجي من اعتراض أو غضب، لن ينوبك سوي العكننة علي اللي حصل، فمن الحكمة إذن أن تضع نفسك تحت طائلة المثل الدارج: «اللي وقع ينسلخ» مسلماً أمرك وعوضك علي الله. وإذن: فإن المرور من أمام كشك المعلم علي منجة شائك وحرج وغير مستحب علي الإطلاق.