19 مليار.. 19 ألف مليون.. 19,000,000,000.. انطقها أو اكتبها كما يحلو لك.. ففي كل الأحوال هي اختصار لقيمة ما ننفقه سنوياً على المخدرات، وعمار يا مصر! ولأن لغة الأرقام هي اللغة الأكثر مصداقية -خاصة إذا ما كانت موثقة من جهات رسمية معتمدة- ولأن الأرقام لا تكذب ولا تتجمل، ولا تعرف التلاعب بالألفاظ، واستخدام تشبيهات اللغة، وتفعيلاتها، وصيغ مبالغتها؛ لخلق صور جمالية أكثر من اللازم، أو أسوأ من المتوقع، فدعونا نصغي إلى أكبر متحدث رسمي في مصر عن عالم "الكيف" وتجارة "الوهم".. اللواء مصطفى عامر مدير الإدارة العامة لمكافحة المخدرات. في عام 2009 (فقط).. وصل عدد قضايا المخدرات إلى 46 ألف و358 قضية.. وبلغ عدد المتهمين فيها 49 ألف و 130 متهماً.. واستطاعت الإدارة العامة لمكافحة المخدرات ضبط 6 مليون و291 ألف و833 كيلو جرام "بانجو"، ومليون و142 ألف و247 كيلو "حشيش"، و205 أفدنة مزروعة "قنب" بخلاف 60 فداناً من بذور "القنب" التي لم يتم زراعتها بعد، و235 فدان "خشخاش"، و58 كيلو جراماً من "الأفيون"، و57 كيلو جراماً من "الكوكايين"، و255 سم مكعب من "الماكستون فورت"، و252 سم مكعب من "الهيروين" السائل، و68 مليون و427 ألف و637 قرصاً من الأقراص المؤثرة على الحالة النفسية! يا الله.. كل هذا الكم الرهيب من القضايا، والمتهمين، والمواد المخدرة المزروعة والمصنوعة في عام واحد؟! كلا بالطبع.. فالأرقام السابقة هي ما تم ضبطه فقط.. بينما ما تم تهريبه واستهلاكه أكثر بكثير، فكم يبلغ الحجم الإجمالي من المتعاطين والتجار والمواد المخدرة في عام واحد إذن؟! تعالوا نحسبها.. في حوار مع الكاتب "عصام يوسف" مؤلف رواية "رُبع جرام" التي تناقش عالم الإدمان والمخدرات، أخبرني أننا كان لدينا في مصر 45 ألف قضية اتّجار مخدرات عام 2007، ولو افترضنا أن كل قضية بها اثنان فقط من التجار لصار لدينا 90 ألف تاجر مخدرات، ولو حسبناها -مجازاً- أن كل تاجر باع المخدرات خلال العام إلى 100 شخص متعاطٍ فقط (على سبيل التفاؤل) لوجدنا أن لدينا في مصر 9 مليون متعاطي مخدرات على الأقل! أما بحسبة عام 2009، والذي تم فيه ضبط 6 مليون كيلو جرام "بانجو" فلو افترضنا أن كل كيلو جرام يشربه 5 أشخاص فقط، لوجدنا أن لدينا في مصر -وأمسكوا نفسكم كويس من الرقم- 30 مليون متعاطي بانجو تقريباً، وبتطبيق نفس الحسبة على المليون كيلو جرام حشيش المضبوطين سنجد أن لدينا 6 مليون متعاطي حشيش تقريباً، أما ال68 مليون قرصاً من الأقراص المؤثرة على الحالة النفسية، فلو افترضنا أن كل متعاطٍ لتلك الأقراص يتعاطى قرصين (لزوم عمل الدماغ وتشغيل الكيميا)، فسيعني ذلك أن لدينا 34 مليون متعاطٍ لتلك الأقراص تقريباً، وللمرة الثانية أكرر: كل هذه الحسابات في ضوء ما تم ضبطه فقط، وخلال عام واحد! في سيناء الشمالية والجنوبية على حدٍ سواء توجد مناطق عديدة تجري زراعتها بالكامل بالمخدرات.. في منطقة "كوم السمن" بمحافظة القليوبية توجد "باطنية" جديدة أشد خطراً، وأكثر هولاً، من النشاط الإجرامي الذي اشتهرت به منطقة "الباطنية" في السبعينيات والثمانينيات.. في طريق "دهشور" فوق الهضاب والجبال توجد أوكار ومنظمات تشغّل ليلاً كشافات النور التي تحيل ظلام الليل إلى صبح، لتعطي إشارة إلى متعاطي المخدرات أن هناك كميات جديدة من "الصنف" جاهزة للبيع، وعلى من يرغب أن "يشخشخ جيبه"، ويجمد قلبه ليصعد الجبل ويشتري ما يلزم "ترويق الجمجمة"، ومهما بلغت جهود رجال الشرطة والقوات المسلحة في التصدي لهذه المناطق والأوكار والعاملين بها، فستظل تجارة المخدرات في تزايد طالما هناك مستهلك، وقاعدة السوق الاقتصادية تقول: "كلما كان هناك طلب.. لا بد وأن يكون هناك عرض"! والآن.. وبعد سرد كل تلك الأرقام والمناطق.. تعالوا لنحصي شيئاً آخر أهم من كل ما سبق بكثير، لكنها غير مثبتة في الدفاتر والإحصاءات الرسمية.. كم نفس لقيت ربها وهي على تلك الحالة من "الضياع" والغيبوبة؟! كم حادث سيارة على الطريق تسببت فيه المخدرات؟ كم جريمة سرقة سواء في السر، أو بالإكراه والسطو المسلح من أجل الحصول على المال اللازم لشراء "الصنف"؟ كم عقل بشري قضت عليه "السموم"؟ في زمن الصراعات الملتهبة في كل مكان على خريطة العالم.. والتسليح النووي الذي تذل به "إسرائيل" نواصينا، وتسلب منا مقدساتنا الإسلامية والمسيحية.. وذلك الخطر الداهم المحدق بنا من كل جانب في شرق أوسط ساخن يموج بالأحداث الدامية.. ماذا أعددنا العدة؟! 19 مليار جنيه سنوياً.. تأملوا معي الرقم.. كم كان يمكن أن يغنينا عن الدعم الحكومي الذي تذلنا به الدولة، ويساهم في عمل رغيف حاف عليه القيمة ويصلح للاستهلاك الآدمي.. كم كان يمكن أن يساهم في عمل تجمعات سكنية جديدة بها مرافق، وكهرباء، وصرف صحي، ومياه نظيفة، لتسليمها للشباب الذي يريد أن يتزوج ويعف نفسه ولا يجد المال الكافي، لنحل أزمة العنوسة وتأخر سن الزواج وظاهرة التحرش؟ كم عدد المستشفيات الحكومية التي كان في إمكانه تجديدها، وإصلاحها، وإمدادها بالمعدات الطبية الحديثة، والتجهيزات التكنولوجية اللازمة، والأسرّة التي تليق بجسد المواطن المصري البسيط المنهك بالمرض والفقر؟ كم يتيم كان من الممكن أن يوفر لهم التعليم اللازم، والمأوى والغذاء والكساء؟ ألف كم وكم كان من الممكن أن نجيب عليها من أموالنا التي ننفقها على الوهم، والضياع، بدلاً من أن نشكو من الفقر والذل والفساد الحكومي.. حسبنا الله ونعم الوكيل فينا!