سالي عادل شطب بيتر احتمال أن الموناليزا أم دافينشي، وشطب باقي الاحتمالات في القائمة، ثم مزّق القائمة.. إن التخطيط وتتبع الموناليزا مع سبق الإرصاد والترصّد: بلا جدوى.. وإن قانون الصدفة لأقوى من كل شيء! بدأ بيتر يُفكّر أن لو عليه أن يجد الموناليزا؛ فعليه أن يسمح بمساحة من الارتجال والفوضى في بحثه، وأن يجرّب كثيرا جدا حتى يجد مبتغاه.. أمّا التأكد من ديانة الموديل فهذا أمر بلا قيمة.. ما يمنع أن تكون الموناليزا حتى بلا ديانة؟ ثمّ ما احتمال أن تكون الموناليزا مزيجا من عدة فتيات؟ فتاة واثنتان وثلاث في الليلة الواحدة.. ألوان تمتزج على اللوحة التي يعلق بها أكثر من عطر.. إحداهن تلقي ظلالها على اللوحة فتظلم وكأنها تتعمد أن تضايقه، إحداهن تلتصق بجسده وهو يرسم فتثير خيالات شهية، وإحداهن تجلس كالصنم بلا حراك.. بائعة الفاكهة التي يغلبها جوعها فتقضم تفاحة، الأرستقراطية التي ترفض أن تُرسم إلا واضعة ساقا على ساق، المراهقة التي تحتضن كراسها، الكعب العالي جدا.. حمّالة الصدر المشدودة جدا.. الشعر المنسدل.. ألف وجه لألف امرأة، ولكنهن جميعا يرين انعكاس الموناليزا في عيني بيتر. وفي كل مرة، وبعد أن ينتهي من اللوحة، يحملها فيقارنها بلوحة دافينشي، من ثم يرمي بها إلى الأرض، ويمزقها بسكّينه، ثم يلقي بالموديل عليها، ويهوي فوقها. كان يخونها، كان يستمتع بهذه الفقرة كثيرا إلى الحد الذي يجعلني أتساءل: هل أراد حقا أن تنجح رسومه، أم كان يخشى إن نجحت أن تتوقّف زيارات الفتيات؟ كانت تشعر بخياناته، لكنها كانت بحاجة إلى دليل، أن تتأكّد؛ فإما تبرد نارها، أو تشتعل لتحرق الكل. وقد أقسمت بالمسيح والعذراء أنها لو أيقنت بخياناته: لستخون. هل تعرف من المرشّح الأول لتخون معه ماريا؟ إنه.. أنا.. أنا المحظوظ الذي سينال لقب "عشيق ماريا الطاهرة". هل تريد أن تعرف أكثر؟ نعم.. أحب أن تخون ماريا بيتر معي، أعني: أن أخون صديقي بيتر مع ماريا. أقصد: أن يخون بيتر ماريا مع فتيات المرسم.. أو.. أن تخون الفتيات أزواجهن مع بيتر.. أوه! لا أدري! فقط أعرف أني لا أحب أن يطلق عليّ أحدكم لقب: "خائن"، لأنه -بالأصل- كلكم خائنون.
***
كيف لماريا أن تعرف: فكرَت أن تصنع نسخة من مفتاح المرسم، فكرت أن تفتش المرسم بحثا عن دليل بعد مغادرتهن، حتى إن تنتظرهن على باب المرسم أو تصادقهن ليدلين بالاعتراف.. فكرت في أفكار معقدة وساذجة، ولم تفكر في أبسط شيء. في زمن، بدا لها موغل في القدم، كان بإمكانها أن تقول لبيتر: سأقتلك لو أن معك بالمرسم امرأة، ثم تظفر بحياتها بعدها.. أما الآن.. ولماذا نقارن بالآن إذا لم تكن المقارنة في صالحنا؟ لحقت به وهو يستعد لطلعته التي سينتقي فيها عروسه لليلة، ورمت عليه بالسؤال. أصدُقك، إن صراحة بيتر غير متوقعة، وإن هذا لأقصر وأثمر حوار: - هل خنت؟ - نعم. التمع الغل بعينها، فأغمضتها ثانية، وحين فتحتها كانت زوجة متسامحة متفانية لا أكثر.. ابتسمت: - ها أنت تمزح، بيتر! كانت تشعر بحضور تلك الروح الخائنة بشكل مبالغ فيه، لكنها هذه المرة ليست نادمة.. إن لم يستحق وغد كهذا أن تخونه، فلماذا وُجِدت الخيانة في الدنيا؟ جهزت الطعام، أعدت المائدة، أشعلت شمعات الشمعدان.. ثم ذهبت تدعوه إلى العشاء.. كان يرتدي بنطاله وقميصه الخاكي.. احتضنته من الخلف، انتفض... قالت برقة: - أفزعتك؟ - لا! فقط لا أحب أن يحدث شيئا خلف ظهري... أفضل لو تواجهيني. ارتبكت: - بماذا؟ نظر إليها بعمق: - لا شيء.. عاد لارتداء ملابسه، نفضت عنها نظرته: - أغضبت من تشككي؟ هذا لأني أحبك. نظر إليها بطرف عينه، وتابع الاستعداد.. - إذا كنت مصمما على الخروج، على الأقل لنأكل معا.. أنا أعددت العشاء. جذبته من يده برفق إلى المائدة، مهدت له الكرسي وأجلسته.. وجلست في مواجهته، سألته: - أترفع الصلاة أم أرفعها أنا؟ قال في ملل: - ارفعيها أنتِ. ضمت يديها وأحنت رأسها وبدأت في تذكّر كيف تقال الكلمات، قالت بصوت خفيض: - أبونا الذي في السماوات.. فتحت عينيها، أغمضتهما: - أبونا الذي في السماوات.. تتوق حقا إلى معرفة ما يأتي بعد هذا، لكنه لا يجيء، يوفّر عليها حيرتها، يشطر الخبز ويرمي لها نصفه: - خذي كُلي! تلتقي يداهما في الإناء.. تلتقي نظراتهما، تسحب يدها في عجل.. تتذكّر عبارة قرأتها في كتابها المقدس: "الذي يغمس يده معي في الصحفة هو يُسَلّمُني!". كان يجب أن تتمالك نفسها، لو أن ما بالطعام سُمّ لما بدت أكثر ارتباكا من هذا.. لذلك حين سكب زوجها الملح بالخطأ ابتسمت، قالت له: - لا عليك! ثمّ ضغطت بيدها على قلبها كي يكف عن الضجيج؛ سكب الملح لن يكن يوما بشارة خير. أما اللحظة التي مسح فيها فمه بالمنشفة فكانت أسعد لحظاتها، تركت طعامها وقامت خلفه توصله للباب: - هل ستتأخر؟ - ربما.. - إذا حاول ألا تتأخّر.. هل يمكنني الذهاب في زيارة قصيرة للكنيسة؟ تعرف.. سأضيء شمعة وأدعو العذراء أن تباركنا.. - لا بأس. - شكرا يا عزيزي. ثم طبعت قبلة سريعة على خده.. وحين استدار يرقبها في اهتمام تذكرت عبارة أخرى وردت في ظرف مشابه: "يا يهوذا، أَبِقبلةٍ تُسلّم ابن الإنسان؟".
*** عاقدة العزم هذه المرة.. رقيقة طاهرة منكسرة في زي عاهرة قاسية جبّارة.. خاسرة لكل شيء؛ لأن بيتر كان آخر شيء لها.. - هل تسمعني يا أبتي؟ - نعم يا ابنتي.. - إذا لماذا لا تجيب؟ إن لدي اعترافا ولكني أريد أن أقوله لك مباشرة، فاعبر هذا الجدار ودعني أراك. - لكن يا ابنتي طقوس كنيستنا تمنع هذا. - ولماذا يا أبتي؟ إنني أحتاج أن تضع يدك على رأسي وتقول إنك غفرت لي، ألم تتعلق المرأة الخاطئة بقدمي المسيح؟ ألم يرتمِ الابن الضال في حضن أبيه عندما رجع؟ وأنا خاطئة وأحتاج إلى حضنك يا أبتي. يالبؤسك أيها القدّيس.. لكم أتمنى ولكنني: - لا أستطيع يا ماريا.. لا أستطيع.. خرق اسمها أذنها: - هل قلت ماريا؟! وكيف عرفت اسمي؟ أوه.. إن نشوة اعترافها أفقدني الحذر.. - إن اسم زوجك والطباع التي أخبرتِها عنه تذكرني بصديقي بيتر.. وأعرف أن زوجته تدعى ماريا. - إنها لورطة أن تعرف زوجي يا أبتي.. ولكن.. ثم مسحت بيدها على الجدار، وألصقت جسدها: - لننسى هذه الرسميات الليلة، اعبر إليّ، إنني.. أحبك يا أبتي. "أحبك يا أبتي"... دوامات من الكلمة يعوم بينها قلبي... أبحث كالغريق عن بعض العقل، بعض العقل: - أستخونين يا ماريا؟ - لا تسمّها خيانة.. إنه قربك يا أبتي. - بل قولي "خيانة" يا ماريا.. قوليها.. لكنني لا يمكنني أن أقترب أكثر من هذا.. فأعيريني يدك، سأعبر بها جسدك.. طرقه الممهدة والوعرة.. سأذوق مراراته وحلوه، وخذي يدي.. مرّي بها على جسدي.. وما تقع عليه يدك فهو لك. - وكيف يبدو جسدك يا أبتي؟ - إنه ضخم، جاف، وأسمر اللون. - أضع عنك عباءتك، أبتي، ماذا ترتدي تحتها؟ - أرتدي بنطالا وقميصا من اللون الخاكي. - ماذا!؟ لا بد أن ماريتي للمرة الأولى تفكّر في الربط بين اثنينا: بين صوتينا، جسدينا، وحتى ملابسنا.. لماذا لا يمكنها أن تزورني إلا حين يخرج؟ لماذا تشعر بالألفة مع صوتي؟ كيف أعرف صدقها حين تصدق وكذبها حين تكذب.. كيف لم تفكّر في هذا الأمر من قبل؟ نثرت ماريا كلماتها المبعثرة: - الخاكي.. كيف.. بيتر... صديقي بيتر.. نعم، أعرفه، إنه من أقرب الناس إليّ، أقرب شيء. إن ماريا في أوهن حالاتها، وهذه هي فرصتي.. وإني في تاريخي لم أجد ضحية قابلة؛ لأن تخون بسهولة أكثر من ماريا في لحظتها هذه. إن هي إلا لحظة.. أداعب جسدها بيدها، وخيالها يرسم صورتي: صورة العشيق... لكن روحي تختنق، أشعر بها تنسحب... أحاول أن أتشبث بها، أن أجذبها، لكني لا أجد لها أطراف... أضع ملابسي وصليبي وحُليي، أتخفف من كل شيء، أتخبط في الجدران، أستنجد بماريا. تحاول العبور إليّ، تبحث عن فرجة وتدور حول الجدار... ولما تنجح أخيرا أن تدلف إليّ تصرخ: - بيتر! ينازعني أحدهم على روحي، وأنازعه، أنا أريد روحي، أريدها، لا يمكن أن تأخذوها، لا يمكن أن تأسروها من جديد في... لوحة. ينجحون، يسحبونني بعيدا عن هذا الجسد الذي رقد بلا حراك.. تضمم ماريا ملابسها، تنحني على زوجها: تستفيقه، وحين يفتح عينيه يطالعها بعيني طفل خاويتين، ويضممها. يتعكز عليها إذ يخرجان من الكنيسة.. الكنيسة التي بدت لهما الآن: خرابا مهجورا.. لا يحوي شيئا سوى البوم والقطط.. لا بد أن ماريا تنظر إلى المكان بدهشة.. كأنها تراه لأول مرة... لا بد أنها تتساءل في نفسها: كيف رأته فيما سبق: كنيسة؟ سيقول بيتر أشياء كثيرة، ولكنك تعرفها: سيقول إنه شعر أن ثمة روحا شريرة تتلبّسه وتدفعه دفعا للخيانة، وقد أخبرتك من قبل أن كلهم يقولون هذا. سيقول إنه لا يشعر بنفسه حين يعوي القط وتلتمع الموناليزا في عينيه: إنني أكون حاضرا حينها في داخل جسده، وأنت تعرف غريزة الحيوانات للأشياء المريبة. سيقول إن ولعه برسم الموناليزا تحوّل إلى ولع لمواقعة الفتيات اللاتي يرسمهن، إنه الولع بالخيانة، أن يخون هو، ويدفعهن للخيانة.. إنني حتى دفعته إلى تمثيل دور العشيق ليدفع زوجته للخيانة.. ماريا الطاهرة كانت ستخون فقط فقط لو أمهلوني دقيقتين. سيقول أشياء كثيرة، وسيبدو عليهما معا العجب، حتى حين تخرج صحف الغد بخبر: "النجاح في ترميم لوحة العشاء الأخير لدافينشي" ستظل عقولهم المحدودة عاجزة عن اكتشاف السر.
***
لقد سألتك من قبل عن شعورك وأنت واقف أمام لوحة، ولم يكن سؤالا جديا.. كنت أريد أن أسألك: كيف يكون شعورك وأنت واقف "داخل" لوحة؟ كم من الملذات كنت لتكسبها لو أنك بالخارج؟ كم من المال كنت لتجمع، كم من الفتيات كنت تضاجع؟ وكم كم! أعاني من الوحدة، والملل، وتنميل في الأطراف في حين تحكي المرشدة لمجموعة من السذّج عن الجهود المضنية التي بذلوها في ترميمي.. كم واحد منهم يدرك حقيقة: ما أنا! إنني سأفلت ذات يوم، وسأنشر الخيانة بينكم كما وصمتموني بها، وسأذكركم دائما: أن القديس يهوذا هو أخلص التلاميذ للرب، وأن خيانتي ما كانت إلا إخلاصا؛ فلولاي.. لولا أن استشعرت خوف المسيح من أن يضعف فأسرعت بتسليمه للكهنة لما تحققت مشيئة الرب في أن يُصلب ويخلصكم من خطاياكم. إنني أداينكم جميعا وسأصبر حتى أتحرّر وأطالبكم بالدين، فقط يستبد بي التوق حين أتذكّر الطريقة التي كانت ماريا تناديني بها: "يا أبتي".
*** تمت الحلقات السابقة: سلسلة قصص الرعب.. فرار يهوذا (1) سلسلة قصص الرعب.. فرار يهوذا (2)