جمال خاشقجي على الرغم من أن السعودية ذاقت من ويلات تنظيم القاعدة؛ فإن بعض طلاب العلم والدعاة فيها اختلفوا حولها؛ أحدهم قال عنها وأتباعها إنهم "ليسوا تكفيريين ولا يتساهلون في دماء المسلمين"، ثمّ تراجع واعترف بخطئه فقال لاحقا: "بعض المنتسبين إليها عندهم تساهل بالقول بتكفير المسلمين وبإراقة الدماء". شيخ آخر انتقد القاعدة في مالي ووصفهم ب"المجرمين"، ودعاهم إلى "كفّ شرهم عن الأمة"؛ فأثار موجة حادة من الانتقادات عليه من دعاة آخرين، قالوا إنه بذلك يصطفّ مع الكفر ضد الإسلام، وردّ عليه واحد من أبرز الدعاة بأنهم "مجاهدون في سبيل الله يريدون تطبيق الشريعة، وصدّ الحملة الفرنسية على مالي، فوصْفهم بالمجرمين ظلم وبغي". هذه الحالة لا تقتصر على السعودية، وإنما تتكرّر بدرجات عدة في الدول الإسلامية؛ فالرئيس محمد مرسي انتقد التدخّل الفرنسي ضد القاعدة في مالي، ولكن لم يُعلن تعاطفه لا مع القاعدة ولا مع الحكومة المالية الشرعية التي طلبت وشرعت التدخّل الفرنسي، وهو ما جلب عليه انتقادات حادة من سياسيين مصريين؛ خصوصا مع وجود تيار سلفي جهادي صريح في مصر بعضه سلمي، ولكنه يرفض العملية الديمقراطية وآخر يمارس العنف في سيناء. في سوريا، ظهرت جبهة النصرة ولم تخفِ تعاطفها مع القاعدة وكونها امتدادا أصيلا لقاعدة العراق، صنّفتها الولاياتالمتحدة فورا كجماعة إرهابية، ولكنّ رفقاءها في السلاح من تيارات إسلامية وسطية وقوى وطنية رفضوا ذلك؛ فعلى الرغم من شكوكهم الأوّلية حولها؛ فإن بلاءها الحسن في المعارك وحُسن إدارتها للمناطق التي تحرّرها وأمانة رجالها في توزيع المساعدات جعلت لها قبولا عندهم، وأهم منهم لدى عامة السوريين، غاضّين البصر عن خطابها المتطرّف والطائفي، والزجّ بشباب وصبية في عمليات انتحارية. أطياف مماثلة ظهرت وتنشط في لبنان وليبيا وتونس تتماهى مع القاعدة، ترفع أعلامها وشعاراتها، ولكنها تقول إنها ليست قاعدة؛ فهل ارتجّ على بوصلتنا في الحرب على الإرهاب فلم نعد نرى القاعدة كقاعدة؟ أم إنها مشكلة بنيوية قديمة في العقل المسلم المعاصر؟ أعتقد بأن ثمة حاجة ضرورية أن ينفر نفرٌ من أهل العلم الشرعي مع علماء في السياسة ومختصّين في تاريخ الحركات الإسلامية للاجتماع وراء أبواب مغلقة للاتفاق على تعريف القاعدة، وتفسير التطوّر الفقهي من فتاوى وكتب وسوابق ولدت "فقه القاعدة"، الذي يتساهل في تكفير المسلمين واستباحة الدماء والخروج على الأنظمة. فهي من دون شك تكفّر العامة بلا حرج، وتخرج على الأنظمة الشرعية من دون تردّد، وتفتئت على الحاكم من دون وجل، وأخيرا تمارس وتُجيز العمليات الانتحارية حتى وسط المسلمين والمدنيين من دون خشية الوقوع في الدم الحرام، ثم لا يتردّد أحدهم في أن يقول إنهم بسُنة الرسول عليه الصلاة والسلام مهتدون وعلى نهج السلف الصالح سائرون. فكيف حصل ذلك؟ كيف غابت عن "القاعدة" وقياداتها وأفرادها، وهم مسلمون لهم حظ في العلم الشرعي وطلاب للعلم، الآيات والأحاديث النبوية ووصايا خليفتي رسول الله عليه الصلاة والسلام تحديدا للجيوش الإسلامية التي تشكّل كلها قواعد "الاشتباك" في الإسلام، وهي قواعد متقدّمة تمنع الاعتداء والتعدّي واستهداف المدنيين والمحايدين بل حتى البيئة، وهو ما دعا كثيرا من الباحثين إلى أن يعتبروا الإسلام متقدّما بقرون على قواعد الحرب وحقوق الإنسان التي أقرّها العالم في القرن ال20 التي توّجت باتفاق جنيف. أن يُفجّر انتحاري نفسه في مسجد ببيشاور انتهاك كامل للأحكام الشرعية والأخلاقية الإسلامية كافة، ولكنه بات حدثا عاديا يحصل كل يوم في باكستان وأفغانستان والعراق، أما أن يُفجر انتحاري نفسه وسط رجال الشرطة أو الجيش فهذا أكثر حدوثا وانتشارا. وإن سألت ما الدليل على ذلك سيقول أحدهم "إنها فتوى التترس" الشهيرة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي في أصلها فتوى عادية تترجم ورع المسلم الذي يتحرز من قتل أخيه المسلم فيسأل عن حكم مهاجمة التتار المعتدين، وهو يرى في صفوفهم مسلمين يصلّون ويؤذنون، فأجاز ذلك، وهي فتوى عادية تتنزل على حالات الاشتباك بين الجيوش، ولكن القاعدة وظّفتها في اختطاف الطائرات وتحويلها بمن فيها لصاروخ مدمّر. كيف حصل ذلك على رغم كل الموانع الشرعية والأخلاقية التي شيّدها الإسلام في تكريم الإنسان وحرمة الدم؟ لكي أوضّح حديثي أكثر، لنرجع إلى الوراء بضعة عقود، كان المسلم يُجاهد المستعمر الأجنبي، من إندونيسيا حتى المغرب، ولكن لم تكن هناك عمليات انتحارية، ولا تكفير عام للعامة الذين سكتوا على الاحتلال، كانت هناك تفجيرات تدخل في قائمة المقاومة الشعبية، اغتيالات لمن يرونهم خونة، ولكن لا شيء مما نرى اليوم، من تساهل في قتل حتى عامة المسلمين. ما الذي أصاب العقل المسلم؟ الكارثة تتعدّى القاعدة إلى العامة الذين يمكن أن يقعوا ضحايا أفعالها العمياء، فلمجرد أنها ترفع راية الشريعة أو محاربة الأجنبي تختلّ البوصلة، أحيانا تتعارض مواقفنا، فتكون القاعدة التي تنشط بجوارنا فئة ضالة وخوارج منحرفين، ولكنهم مجاهدون أبطال في العراق ومالي! الهدف من الوصول إلى تعريف دقيق للقاعدة قد يساعد في التوصّل إلى فتوى شرعية لا سياسية في حكم القاعدة والانتماء إليها؛ فكثير من الشباب تحكمهم الفتوى، ويساعد في إبعاد أو فرز الشباب المجاهد في قضية عادلة مثلما يحصل في سورية عن تيار القاعدة، أمّا تشريح تركيبتها الفقهية؛ فقد يساعد في بناء موانع تحول دون انضمام أتباع جدد إليها، ويحمي بوصلتنا من أن تختلّ حساباتها مرة أخرى فنجهل القاعدة وهي أمامنا. نُشِر بموقع جريدة الحياة