ستسألني وما الذي ذهب بك إلى إثيوبيا. سأقول لك إنني ذهبت متطوعا -باعتباري صيدلانيا- مع هيئة طبيّة خيريّة تقوم بتقديم خدمات علاجيّة مجانيّة لغير القادرين في الدول النامية. حسنا.. هذا هو السبب الذي ألقى بي في غياهب الأحراش الإفريقية لعشرة أيام شاهدت فيها من الغرائب ما يستحق حقا أن يسجّل في هذه المقالات! قيل فيما مضى إن في السفر سبع فوائد، لكني أستطيع أن أؤكد أن فوائد السفر أكثر بكثير من مجرد سبع، إن مجرد الخروج من النقطة (أ) إلى النقطة (ب) به بضع فوائد لا بأس بها، أيا كان موضع النقطة (ب)! كانت تجربة السفر مقلقة بالنسبة لي؛ فهذه أول مرة أسافر وحدي، وقد كانت آخر مرة ركبت فيها طائرة منذ أكثر من عشرين عاما! كنت مجرد طفل صغير يمسك يد والده ويمضي معه دون أن يشغل باله بشيء.. اليوم يجب أن أشغل بالي بكل شيء! في البداية كان يجب أن أحصل على التطعيمات اللازمة للمسافر إلى إثيوبيا.. كان هناك قلق أيضا من مسألة الملاريا، والمعلومات متضاربة على الإنترنت بخصوص هل يجب أن أتعاطى علاجا واقيا منها طوال إقامتي هناك أم لا. لم أكن أريد أن آخذ العلاج الواقي من الملاريا؛ لأن كل الأنواع لا تخلو من الآثار الجانبية، وأقلها إصابة العينين بحساسية ضد الضوء، بحيث إنك لا تستطيع أن تفتح عينيك في الجو المشمس، لكني استبعدت الملاريا في النهاية اعتمادا على معلومتين: الأولى أن أديس أبابا مرتفعة جدا عن سطح البحر وبالتالي فهي خارج نطاق الوباء، والمعلومة الثانية هي أن الفترة التي سافرت فيها كانت خارج موسم الملاريا في هذه المنطقة. وهكذا ذهبت إلى الوحدة الصحية للحصول على الكارت الأصفر -الذي من المفروض أن أبرزه عند عودتي إلى البلاد في المطار، وإلا حجزوني في الحجر الصحي إلى أن يثبت خلوّي من الأمراض، لكن هذا لم يحدث ولم يسألني عنه أحد!- وقامت ممرضة عصبيّة ترتدي نظارة سميكة جدا بغرس ثلاثة مسامير في ذراعي -من المفترض أنها محاقن- واحد للحمى الشوكية، وواحد للحمى الصفراء، وواحد للكوليرا. بعد بضعة أيام من التطعيم سأكون محصّنا من هذه الأمراض الثلاثة، فلا يجب عليّ أن أقلق بخصوصها، لكن هذا لم يمنعني من أن أعود من هناك بالتهاب كبد وبائي كاد أن يقضي عليّ! ثم كان عليّ أن أبتاع حقيبة سفر جديدة لزوم الوجاهة، ثم أعدّ قوائم -بحسّي الوسواسي المعتاد- بالأشياء التي يمكن أن أحتاج إليها في السفر لأجهزها. أعتقد أنني لم أنسَ شيئا، حتى الرواية الاحتياطية التي يمكن أن تسليني تحسّبا لاحتمالية وجود أوقات من الملل! حجز تذكرة الطائرة، تشغيل خدمة التجوال وشحن الهاتف بالكهرباء والمال، الاتفاق مع شخص يوصلني للمطار وشخص آخر يأخذني في اليوم الموعود، الاتصال بالبنك لتشغيل كارت الفيزا في إثيوبيا في فترة السفر، إجراءات الحصول على الفيزا من السفارة، التأكد من وجود ختم معفى من التجنيد على الباسبور.. تفاصيل تفاصيل تفاصيل تكاد أن تصيب المرء بالجنون في النهاية، صار السفر في أيامنا شيئا معقدا جدا، تذكرت ما كتبه سلامة موسى في كتاب السيرة الذاتية الخاص به "تربية سلامة موسى" من أنه حين قرر السفر إلى باريس عام 1908 دفع ثمن تذكرة ركوب السفينة وأخذ بعض الملابس ومضى! هكذا ببساطة! لا توجد إجراءات سفر أو تصريحات أو فيزات ولا أي شيء من هذا القبيل! بعدها سافر إلى لندن ومنها إلى المغرب بنفس الطريقة.. مجرد أن تدفع ثمن التذكرة وتمضي! كان السفر إلى باريس أو لندن لا يفرق أبدا عن السفر إلى طنطا أو أسيوط! في مطار القاهرة رأيت "الإنجازات" التي صدّعنا بها أحمد شفيق وكأنه نفذها من ماله الخاص وليس من اعتمادات الدولة! كل شيء فخم ولامع مع لافتات إرشادية سهلة، وسيور متحركة تقف عليها لتسير بك في الممرات الطويلة دون أن تُتعب نفسك بالمشي، تماما كأفلام الخيال العلمي! أعطيتُ أوراقي لضابط الجوازات، ظللت أنتظر أن يتفحص وجهي ثم يقارن بينه وبين صورة أسفل المكتب ثم يقول لي اتفضل معانا من غير شوشرة! لعله سيجد اسمي ضمن الممنوعين من السفر؛ لتشابهه مع اسم أحد المجرمين أو شيء من هذا القبيل.. يبدو أن الأفلام العربية أفسدت تفكيري! لكن الرجل ختم الأوراق وأعطاني إياها دون كلمة.. لحسن الحظ لم يكن هناك مجرمون كثيرون يحملون اسم ميشيل! بعد فترة الانتظار الطويل، ثم تفتيش أمتعة الركاب التي ستصعد معهم إلى الطائرة، واستبعاد كل ما هو حاد أو موضوع في زجاجة أو به سائل، تكوَّنَت في سلة كبيرة ثروة صغيرة من العطور والمقصات وزجاجات العصير والمياه وماكينات الحلاقة ومختلف الأدوات! ظللت أفكر في مصيرها وإلى من ستؤول في نهاية اليوم! عندما ركبت الطائرة أخيرا بدت لي صغيرة جدا.. مجرد أنبوب رفيع وضيق جدا تتحرك داخله بصعوبة، عندما كنت صغيرا كانت تبدو لي الطائرة من الداخل هائلة الحجم، كنت أجلس ولا أرى سوى ظهر المقعد العالي أمامي يسد الرؤية، اليوم ظهرت لي الطائرة على حقيقتها! كنت قد حرصت على أن أحجز لنفسي مقعدا بجوار النافذة لأراقب الأرض من النافذة طوال الطريق، لكن لأن السفر كان ليلا فلم أر شيئا.. يبدو أن أسعار حجز مسارات الطرق الجوية يكون أرخص في المواعيد الليلية لهذا تكون معظم مواعيد السفر على طائرات مصر للطيران بعد منتصف الليل! استغرق الطيران حوالي 3 ساعات و45 دقيقة لأجد نفسي بعدها غريبا في أرض غريبة.
يُتبع
أديس أبابا 1 * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: