"القبض على دجال يوهم مرتاديه بقدرته على شفائهم، وتزويج الفتيات، وفك السحر، وتلبث الجان". الخبر ليس بغريب ولا جديد؛ ففكرة اللجوء إلى الدجالين والمشعوذين فكرة قديمة منذ الأزل، وهي ليست حكرًا على المصريين فقط أو العرب وحدهم؛ ففي كل شعوب الأرض مهما ارتفعت درجة الثقافة فهناك من يستغل الضعف البشري أمام المصائب، وتسليم الإنسان في لحظات اليأس للخرافة. ولم تقِلّ مظاهر الدجل والإيمان به في المجتمعات الحديثة عنها في السابق، وكذلك على عكس الفكر السائد بأن الإيمان بالدجل والخرافة يقتصر على الطبقات الفقيرة والشعبية في المجتمع؛ فإن الطبقات العليا تشارك بنسبة واضحة في ترسيخ فكرة استخدام الخرافة. حيث أوضحت دراسة أجراها الباحثون المصريون "رشدي منصور" و"نجيب إسكندر" في المركز القومي للبحوث النفسية أن نسبة 11% ممن يلجئون للدجالين يكونون من الطبقات المتيسّرة والمتمثلة في الفنانين والسياسيين والمثقفين والرياضيين. ولم تعد تقتصر ممارسة الدجل على الفكرة التقليدية لديْنا للدجال الذي يرتدي أسمال بالية، ويضع حول عنقه عدداً من المسابح والعقود والأحجبة ويردد كلاماً غير مفهوم، وهو يطوح رأسه قائلاً (حي) بصوت مفزع، وهي صورة سينمائية أكثر منها حقيقة.. فأغلب ممارسي هذه المهنة اليوم يحرصون على الظهور بمظهر أنيق ومتزن تمامًا؛ بل ويكونون غالبًا ممن يوحي بالثقة لمن يتعامل معهم، ولقد دخلت عناصر جديدة إلى المهنة؛ فلم تعد تقتصر على فرد مجرد هو من يمارس الدجل؛ بل أصبحت هناك قنوات فضائية متخصصة تمارس الدجل بصورة علنية بلا محاسبة. والحقيقة أن فكرة النصب عن طريق الدجل وترسيخ الخرافة واسعة للغاية؛ فبخلاف الجانب التقليدي من المهنة والذي يعرفه الجميع من مئات السنين كصناعة الأحجبة (من أجل الزواج والإنجاب والنجاح وحفظ الغائب وقراءة الفنجان وفتح الكوتشينة، وكذلك طرد تلبّس الجان، وإبطال الأعمال.. إلخ) فإن التكنولوجيا والتطور قد طرأ على المهنة مثلها مثل أي مهنة أخرى؛ فنرى اليوم قنوات فضائية متخصصة في الدجل والإيهام بالعلاج عن طريق القرآن تارة وعن طريق الأعشاب والطب البديل تارة أخرى، وكذلك نرى أرقام (0900) والأرقام المختصرة لكثير من البرامج التي تُحضر من تقدمه على أنه شيخ أو عالم في تفسير الأحلام، وكل ما على المُتصِل أن يُصدّق ويُنفق أمواله على هذه الخرافة ليزيد من ترسيخها. ولا يمكن الحديث عن مثل هذا الموضوع نظريًا فقط؛ ولذا كان يجب الحديث مع مَن مارسوا مثل هذه الأمور ومعرفة تجربتهم. د.أ.غ (فتاة شابة وخريجة كلية أدبية مرموقة) تحكي تجربتها فتقول: إن الحظ لم يوفقها في أكثر من خطبة تعرّضت للفشل، ورغم كونها لا تعتقد بمثل هذه الخرافات؛ ولكن صديقة لها كانت تمر بذات الظروف، وأحضر لها بعض الأقارب شيخاً قالوا إنه مضمون، وبعد ذلك خطبت الفتاة وتزوّجت بالفعل بلا مشاكل، وهذا ما شجعها على أن تجرب. وعند سؤالها عن التجربة ذاتها، قالت إنها قابلت الرجل في منزلها مع والدتها، وأنه أخذ يقرأ الكثير من القرآن ويُردد بعض الأدعية. نصحها بعد ذلك الشيخ المزعوم بشراء بعض الأعشاب وخلطها بنسب محدده ودهان جسدها بها، كما منعها من النظر في المرآة، وتنهي (د) كلامها قائلة: إنها دخلت التجربة غير مصدقة تمامًا لما يمكن أن يحدث، ولكن بعدها اهتزت ثقتها كثيرًا. أما خديجة محمد زرق الله (سيدة متزوجة ولديها طفل وطفلة) ولا تجد بأساً مطلقًا من حكي تجربتها مع الدجل وذكر اسمها كاملاً، فربما تفيد بها كثيرات) تقول: إنها تأخرت في الزواج كثيرًا حتى شعر أهلها بالقلق، وأحضروا دجالاً رفضت مقابلته؛ ولكنه شخّص حالتها بدون رؤيتها بعد أن حكى أهلها مشكلتها له، وقد نصحهم بالتالي: إحضار بيضة دجاجة تم بيضها يوم السبت، وكذلك عليهم أن يحضروا خنفسة، ويتم تقويض الخنفسة بخيط ويتم إشعال بخور تُحرق فوقه الخنفسة والبيضة حتى تنفجر البيضة، ثم يتم شراء بعض مكونات العطارة ويقومون بتوزيعها على أركان المنزل، ثم يتم خلط الباقي بالماء وتحميمها بها بعد ذلك". وهكذا ستزول العين التي تسبب تأخر الزواج. وتضيف خديجة مؤكدة أنها رفضت الخوض في هذا الدجل، والحقيقة أن لخديجة أخت كبرى قد قامت بنفس التجربة وتزوّجت في ذات الشهر الذي قامت به بالوصفة السابقة؛ مما جعل كافة أقاربها يتهمونها بكونها حمقاء لرفض تنفيذ ذات الوصفة مرة ثانية؛ فكما قال (الدجال) إن العين التي أصابت أختها هي نفس العين التي أصابتها، لذا فإن العلاج واحد.. وأنها إن صممت على عدم القيام بالوصفة لن تتزوج أبدًا. وتتابع خديجة ضاحكة، الغريب أنه تقدّم لخطبتها شاب ممتاز في ذات الأسبوع الذي رفضت به تمامًا إجراء هذه الخرافة، وأنها تزوّجت منه وأنجبت وتربى أبناءها الآن بلا مشاكل.. وتتساءل خديجة: ماذا كان يحدث لو كنت قمت بالوصفة؟؟ كان سيُنسب فضل زواجي لها ليزيد من الاعتقاد في هذه الخرافة.. ورغم صمود خديجة تجاه الخرافة ومقاومتها لها؛ ولكن الكثيرات والكثيرين لا يفعلون ذلك.. وتؤكد دراسة ميدانية قام بها د."محمد عبد العظيم" بمركز البحوث الجنائية أن المصريين ينفقون على الدجالين بكافة أنواعهم ما يقارب 10 ملايين جنيه سنويًا، وهو رقم مفزع؛ جعل نفس الدراسة تؤكد أن هناك حوالي 300 ألف شخص يمارسون الدجل والخرافة ويقنعون المواطنين بقدرتهم على العلاج بالسحر وصنع الأعمال وغيرها من الأمور، وأنها تجارة مربحة للغاية في ظل وجود هذا العدد من العملاء الراغبين في الاستفادة من خدمات هؤلاء الدجالين والدفع لهم بكافة الصور. وللأسف فهناك كثيرون مثل (د) يزداد اعتقادهم في الخرافة بعد التجربة، غير واضعين في حساباتهم قوة الوهم والإيحاء، وأنهم نفسيًا قد أهلوا نفسهم لتصديق ولأن يُنصب عليهم بمجرد موافقتهم على إجراء التجربة.