لا أدري لماذا تذكّرني مصر بمولود صغير استمرت مدة حمله ثلاثين عاما تعاني من حمله الأم وهنا على وهن، ثم وضعته مولودا جميلا رائعا يتهافت الجميع على رعايته والاعتناء به.. وفجأة بدأ كل من كانوا يعتنون به يتملصون منه واحدا تلو الآخر، ويتمنى لو كانت أجهضت وهو ما زال بأحشائها؛ طمعا في الأم حتى تصير الأم له وحده. وها هي الأم مصر التي رعاها الله من آلاف السنين والتي لم يمرّ عليها أحد إلا وقال فيها وفي أهلها شعرا على مرّ التاريخ، ولذا كان من الطبيعي أن يأتي الشيخ العريفي ليمدح مصر، وإن اندهاشنا لهو الدليل الأكبر على أننا عشنا في السنوات السابقة سنين عجافا فقدنا بها حتى قدرتنا على التصديق بأننا نستحق المدح! فكم مرّ الكثيرون بمصر على التاريخ فمدحوها، ورغم ما مرّ بمصر من خطوب، كم استحقت المدح، فليس مدح المادحين جديدا علينا وليس استحقاقنا للمدح أمرا غير معتاد، هو فقط أمر نسيناه بعد أن تفنّن من حكمونا طوال عقود في إذلالنا وإشعارنا بأننا لا نستحق وأنهم يمنون علينا بما يعطون. وهكذا فإن كل من يأخذ الأمر على محمل التشكيك والقول بأن ما قاله العريفي تحسين لوجه النظام اليميني الذي يحكم مصر، أو محاولات للتأثير على المصريين، هؤلاء فقدوا الثقة بأن بلادنا تستحق المديح فرأوا خلف كل مدح مؤامرة.. ولكن تعالَ ننظر مثلاُ ما قيل في الأثر عن مصر على لسان "الحجاج بن يوسف الثقفي" في وصيته "لطارق بن عمرو" من أكثر من 1400عام حيث قال.. "لو ولاك أمير المؤمنين أمر مصر فعليك بالعدل، فهم قتلة الظلمة، وهادمو الأمم، وما أتى عليهم قادم بخير إلا التقموه كما تلتقم الأم رضيعها، وما أتى عليهم قادم بشرّ إلا أكلوه كما تأكل النار أجف الحطب.. وهم أهل قوة وصبر وجلدة وحلم، ولا يغرّنك صبرهم، ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه.. فاتقِ غضبهم ولا تشعل نارا لا يطفئها إلا خالقهم، فانتصر بهم فهم خير أجناد الأرض، واتقِ فيهم ثلاثا: 1- نساءهم فلا تقربهن بسوء وإلا أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها.. 2- أرضهم وإلا حاربتك صخور جبالهم.. 3- دينهم وإلا أحرقوا عليك دنياك.. وهم صخرة في جبل كبرياء الله، تتحطم عليها أحلام أعدائهم وأعداء الله".. هذا ما قاله الحجاج بن يوسف الثقفي من 1400 عام عن أهل مصر، وهو من كان يقال عنه إنه ظلوم جبار خبيث سفاك للدماء.. فإن قالها الحجاج وهذه صفاته فإنها بالتأكيد صفات موجودة لا ينكرها أحد.. وقد يقول قائل إن قول الحجاج كان في مصر والمصريين قديماً وليس المصريين المعاصرين، مصرّاً أن ما قاله العريفي وراءه هدف ما لتحسين وجه النظام، ولكن هل أيضاً السعودي محمد الرطيان يحسّن وجه النظام؟؟ فلننظر لبعض ما قاله الرجل عن مصر.. "إن كانت مصر أم الدنيا.. فهي من باب أولى أم للعرب جميعا.. وأي عربي لا يحب مصر فتأكدوا أن في قلبه خللا ما.. وأي عربي يكرهها فتأكدوا أنه ابن عاق.. عودوا لطفولتكم أيها العرب.. أول طبيب عالجكم.. مصري، أول معلم درّسكم.. مصري، أول كتاب قرأتموه.. كتبه مصري وطبعته مطبعة مصرية، أول حركات التنوير.. كانت تأتي من مصر، أول الثورات.. مصرية، أول الشهداء.. مصريون". ثم يستطرد الرطيان قائلاً: "وأنا أحب مصر بكل ما فيها من غلابة، وأناس طيبين، وفقراء.. رغم أنهم يعيشون في المقابر يعرفون كيف يضحكون ويؤلّفون النكات.. أحبها: بعلمائها، ومثقفيها، ودعاتها، وفنانيها". ويتحدّث الكاتب السعودي عن مصر بكل مودة: "إذا غنّت مصر رقص العرب، وإذا أنجبت عمرو دياب ستجد له نسخة في كل عاصمة! وإذا غنى عبد الحليم "خليّ السلاح صاحي" أخرج العرب كل بواريدهم العصملية من مخازنها! وصار رمي اليهود في البحر خيارا استراتيجياً لكل العرب.. أما إن جنحت للسلم فاعلم أنه -حتى مقديشو- سيصبح السلام خيارها (وبطيخها) الاستراتيجي". ويكمل الرطيان: "إنها مصر إذا تحجّبت سيصبح الحجاب أكثر الأزياء رواجاً، وإذا أطلقت لحيتها فسيقلّ عدد الحلاقين من طنجة إلى ظفار، وإذا خرجت للشارع وهي تحمل بيدها قنبلة وساطورا.. فاعلم أنك سترى هذا المشهد بعد سنة، سنتين، عشرا.. في شوارع أخرى.. وإنها مصر.. البهيّة.. الولّادة: تنام، ولكنها لا تموت". ثم يقول الرطيان داعيا لمصر: "يا رب النيل.. احفظ بلاد النيل والمواويل من الجفاف، يا رب الغلابة.. احفظ الغلابة من المعتدين، يا رب مصر.. احفظ لنا أمن مصر".. وينهي الكاتب مقاله مداعبا: "يقول خبراء الزلازل إي هزة تصيب القاهرة فاعلم أن عددا من الهزات الارتدادية سيصل مداها إلى عواصم أخرى". كاتب سعودي آخر هو "هاشم عبده هاشم" كتب: "مصر التي في خاطري" وبالتأكيد كل هؤلاء لم يدفع لهم النظام الحاكم ليجمّلوا صورته، فبعضهم كتب ما كتب قبل وصول الإخوان للحكم بشهور، فعندما يقول هاشم: "إذا كان هناك من بلد عربي واحد كان الإنسان يجد فيه نفسه وراحته وهدوءه وطمأنينته فإن هذا البلد هو مصر".. فلا شيء يدفع كاتبا مثله أن ينافقنا؟ ويكمل هاشم قائلا: "وإذا كان هناك من بلد عربي واحد قدّم الكثير لأمته العربية دفاعا عنها أو رقيا بمجتمعاتها أو ارتقاء بمستويات تفكيرها والتعليم فيها، فهو مصر العربية أيضا.. وإذا كان هناك من شعب قدّم لإخوانه العرب الكثير من أسباب التقدم، ووضع أقدامهم في الطريق الصحيح بما قدّمه لهم من تعليم ومن ثقافة ومن أشكال حضارية متقدمة نقلتنا إلى ما نحن فيه الآن، فإن هذا الشعب ليس سوى الشعب المصري الشقيق". ويضيف هاشم في جزء آخر من مقاله: "لعل أقلّ ما يجب أن نقدّمه لهم في المرحلة القادمة.. هو الاعتراف بحجم بلادهم.. وبأدوارها التاريخية أيضاً.. ولا نسمح لأحد بالقفز أو التطاول عليها.. أكثر مما حدث ويحدث.. لأن في تعزيز مكانتها ودعم توجهاتها المستقبلية الإيجابية.. ضمانة لقوة هذه الأمة.. وعدم تعرضها للأخطار.. وتخطّف مصائرها.. وتهديد أمنها وسلامتها". وهكذا لو عددنا كل من مدح مصر أو شكرها أو عدّد محاسنها لن تكفي السطور.. فهؤلاء لم يأتوا بأمور مزيفة ينافقوننا بها، أو محاسن غير حقيقة ليجمّلوا وجهاً قبيحاً، بل أتوا بما فيها حقاً، وأزالوا من على الوجه الحسن تراب الديكتاتورية والقمع ليظهروا جمالها الحقيقي. كفانا مبالغات لا يستفيد منها سوى نظام يريد أي شيء نلهي أنفسنا به، فلا العريفي قام بما ما لم يقم به أحد، ولا هو عميل مأجور أتى لينصر الإخوان وحلفاءهم، الرجل قال فينا قول حق وشهد شهادة تُحترم ويُحترم من أجلها، بعد أن أبكانا جميعاً وهو يذكّرنا بمن نحن، فلا يصح أن يكون جزاؤه الإهانة والجحود.