رؤية طفل مصري كمحمود وائل بإنجازاته في عمره الصغير جدا شيء يدعو للفخر، الفخر من منظور واحد فقط هو أنه طفل مصري وإن كانت عبقريته منحة إلهية بحتة؛ لأن مصر لم تشارك في هذا النبوغ؛ لأنه ما زال في بداية الطريق، وربما تعليق دكتور أحمد زويل عن ذلك كان الأحق بالتصديق، فالأمر كله يتعلق بخريطته الجينية... بشكل واقعي بعيد عن الشعارات و"انتصرنا انتصرنا"، فمحمود هو بذرة وظاهرة غير قابلة للتكرار، وإن كان والداه غير مقتنعين بسفره وتعليمه بالخارج؛ لأنه مصري لا بد أن ينشأ وينفع بلده، هذا لو أن بلده ستنتفع به!!! فالأمر لا يُحسب هكذا.. أي هبة بهذا الحجم لا بد وأن تراعَى بكل اهتمام، فحرصا عليه أتمنى سفره للخارج، الأمر لا يتعلق بالوطنية أو أنه سيتخلى عن أحلام مصر بمكوثه هاهنا، محمود لن يحقق أحلام مصر؛ لأنه فرد والدولة التي تنتظر معجزة من السماء أو موهبة فردية لترتفع بها لا يمكن أن تتقدم... تخيل لو أكمل محمود مشواره التعليمي هاهنا، وساعدته الدولة في تخطي سنوات الدراسة؛ لأنه ليس في حاجة لإكمالها، وأن مستوى ذكائه يساعده على التقدم بسرعة، لن تكون تلك مشكلته، لكن أن يتطور ويجد مناخا علميا يساعده على تطبيق ما سيحصله هو لب الأمر وخلاصته... وسفره للخارج سيتيح له تلك الفرصة، هو يمتلك الموهبة وهم يقدّرونها، ولكن لكل حريص على مستقبل هذا البلد سيناشده بالعودة، ولكن ليس وحده بل كل عالم خارج مصر. محمد علي في عصره فطن لأهمية العلم وبعث بأبناء مصر للخارج؛ لينهلوا من منابع العلم الأصلية حتى يعودوا وينفعوا البلد، وعادوا وظهر منهم عباقرة أفادوا البلد، ولكن تردّت الأحوال وصار سفر طلاب العلم من أبنائنا للخارج روتينيا للغاية، فمن لا يملك منهم الموهبة ووصل لما وصل إليه لفساد المنظومة التعليمية وقصورها لا يحصل على أكثر من الدرجة التي ذهب من أجلها ويعود لا يفيد كائنا من كان، ومن هو بالفعل يستحق السفر لا يعود مرة أخرى؛ لأنه يجد هناك ضالته... لماذا إذن أطالب طفلا يتعدى مستوى ذكائه الحد الطبيعي بأن يمكث في مصر؟ وهو يستطيع في الخارج أن يبتكر نظرية رياضية أو غيرها تجعله في مصاف العلماء بالخارج ربما استطاع أن يغيّر بها مستقبل العالم بأكمله، أما الناظرين للأمر بعين أنه مهما بلغ من العلم فلن يسمح له الغرب إلا بقدر محسوب من التقدم، وهم من الذكاء ألا يسمحوا لأن تعلو فوق رايتهم راية، وسيغدقون عليه مما يريد شريطة أن يظل بينهم ينفعهم بعلمه، فهو أمر جد صحيح لكن وجوده بيننا هنا لن ينفعنا، وابتكاراته ستظل تحصد له الجوائز، له وحده.. الحل يكمن في إنشاء قاعدة علمية وحُكم يؤمن بالعلم ويسخر له طاقته ولا يخشى منه، قاعدة تكفل لمحمود وغيره من النابغين أن ينفذوا ما يبتكرون، قاعدة تجلب كل علماء مصر القاطنين بالخارج، قاعدة تجعلنا نتقدم علميا كأي دولة استطاعت ذلك في فترة قصيرة ليست بالحلم أو المعجزة، وما قبل إنشاء تلك القاعدة العلمية خطة مدروسة لنظام التعليم بكافة مراحله تكفل لأي من كان أن تراعي نبوغه وتجعله يتعرف على مواطن موهبته، نظام تكون رؤيته أوسع من تغيير نظام الثانوية العامة للمرة الألف، وتغيير وزير التعليم الذي ربما استطاع أن يحل هذا اللغز، فيعِدُ بتغيير المناهج وأن تعتمد على الفهم وقدرة الطالب التحليلية أكثر من الحفظ!! تلك العبارات التي بليت من كثرة استخدامها.... كبار العلماء الذين غيّروا التاريخ بما أنتجوا أمثال إديسون وأينشتين وداروين كانوا أطفالا في حكمنا الاجتماعي، أطفالا أغبياء، في مصر لم يكونوا ليصلوا لأكثر من معاهد الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فالابتكار ليس موهبة قدر ما هو اجتهاد وعمل يدعمها ومناخ يحافظ عليها... إذن فليس محمود وحده هو طفل مصر العبقري، مشاهدتنا إياه كانت لأنه تخطى ظاهرة المعقول والمقبول، ربما لو كان طفلا عاديا كأحمد زويل ذاته لم يكن أحد ليراه، ولأكمل مشوار التعذيب أو التعليم في مصر، أيهما أوقع.. أين باقي أطفالنا في المدارس، وإن كنا نفخر بأن الطفل المصري هو أذكى أطفال العالم، وبرهن لنا محمود على ذلك، فماذا فعلنا لنستفيد من هذا الذكاء؟ هل كل ما تملكه الدولة من قرارات لرعاية الموهوبين هو أن تجعل محمود يتخطى المرحلة الإعدادية إلى دخول الجامعة فحسب؟ لماذا لم تقدّم مقترحا بإنشاء مؤسسة تبحث عن الأطفال الموهوبين بمصر وهم ما زالوا في مرحلة الطفولة، فيتم تنشئتهم تنشئة صحيحة ويحصلون على نظام تعليمي سليم يرعَى موهبتهم؟ لا بد لنا من التحرك إن أردنا الوصول لمكانة ما في العقود القادمة، فالعالم يسير بسرعة السنين الضوئية في التقدم العلمي، ونحن نشاهد دون مشاركة فعلية، لنا أن نثق في أنفسنا قليلا أننا نمتلك آلاف العقول النابغة التي تحتاج لفرصة، نثق في امتلاكها دون أن تتعدى مستويات ذكائها الحد الطبيعي حسب اختبارت وضعها الغرب في الأساس... وأخيرا رسالة لمحمود، أذكر فيما مضي أني شاهدت فيلم Little man tate وقد كان يحكي عن طفل وجدت فيه والدته ذكاءً شديدا في علم الرياضيات، فكان يحل المعادلات التي يصعب فهمها على من يفوقون عمره أضعافا، وعهدت به لمدرسة وهيئة ترعاه وتستفيد منه، لكن بمرور الوقت صار الأمر كثيرا يفوق طاقة الطفل، واشتاق أن يحيا حياة طبيعية التي اختارتها أمه له لاحقا، وأخذته ليحيا حياة طبيعية ولتترك العبقرية إلى حين... فلك أن تتمتع بطفولتك ويفطن والداك لذلك؛ فللنجاح غير التقليدي بريق أخاذ، لكنك ما زلت في البداية فلا تركض لتحصل ما يفوق طاقتك؛ فالموهبة لا ترحل ما دمت متشبثا بها، لكن مراحل حياتك العمرية لن تتوقف، وستصير شابا ثم يتقدم بك السن، فلا تفقد حلاوة كل مرحلة ولا تشغلك الأحلام والآمال عن طفولتك التي لن تتكرر، ولتعلم أنك إن حققت حلما فسيكون لك أولا ثم للآخرين، فلا بد لنا ألا نعلق عليك أحلاما أكبر مما ينبغي وكأننا وجدنا فيك ضالتنا، فأنت لست سبب ما نحن فيه ولست حله، لا بد أن نبحث عن ذلك الحل بأنفسنا أولا.