هل تراه؟ ذلك الطفل النحيل المتوهج الذى يجلس فى الصف الأول!، عيناه العميقتان، جبينه العالى، رأسه المتضخم نوعا، وذلك البريق المفعم بالذكاء. يجلس على مقعده فى كامل الانتباه، وكأن خيوطا غير مرئية بينه وبين معلمه، حبل سرى يربطه برحم المكان. لاحظ كراسه المجلد بعناية، وخطه الأنيق النضيد، وكتبه التى قرأها عشرات المرات. الكل فخور به، تزغرد الفرحة فى عيون أمه، ويشيد أبوه بنبوغه فى كل مكان. هو الأثير عند معلمه، الأول على صفه دائما، والذى يرفع أصبعه عند الأسئلة ويتقن الإجابات، هذا الطفل النابغة سيصبح - فيما بعد - واحدا من أساتذة الجامعات!. هل تراه؟ ذلك الصبى اللطيف فى المدرسة الإعدادية، يجلس فى الصف الأول، ويحدق فى معلمه بتركيز وانتباه، مواهبه الفطرية تجلت فى نبوغه فى الرياضيات، وكراريس امتحانه مثال للإجابات النموذجية، زملاؤه المشاغبون فى المقاعد الخلفية يتحدثون عن البنات، هو أيضا تعذبه الهرمونات القلقة التى تتدفق فى دمه وتعبث بسكينته لكنه يقمع فوران جسده بإرادة حديدية، لأنه يعرف – بالفطرة - أمانة العلم التى يحملها، رسالة المعرفة التى تحاول أن تنتشر، غريزة خفية كتلك التى تلهم الطيور بالهجرات. هذا الصبى النحيل سيكون -فيما بعد -واحدا من أساتذة الجامعات. هل تراها ؟ هذه البنت الخجولة فى المدرسة الثانوية، كعادة المتفوقات تجلس فى الصف الأول، وكأنها تقترب من السر حد الاحتراق، فى كل مرة تحصد ثناء المعلمات، وحتى بنات الفصل اللواتى يتهامسن عن فارس الأحلام وفتى المدرسة المجاورة فسرعان ما يلتزمن حينما تقترب، مهابة العلم التى فُضّل بها الإنسان على سائر المخلوقات. هن لا يعرفن أن مكامن الأنوثة فى نفسها تجعلها تحلم بأزمنة الحب وخطابات مكتوبة بمداد أزرق وحصان أبيض يخترق السهوب. لكنها أحلام لا تغادر صدرها البرعمى تقمعها بإرادة حديدية لتنكب على دروسها طيلة المساء، ثم تكافئ نفسها قبل النوم بقبلة من الأحلام!. هذه البنت ستصبح - فيما بعد - واحدة من أساتذة الجامعات. كلهم سيلتقون فى الجامعة، سيعرفون بعضهم البعض فى سهولة ويسر مثلما ينجذب الشىء إلى معدنه، وتتعرف الروح على الروح. النوابغ الذين منحهم الله الموهبة وفضلهم بالذكاء. الطائفة المختارة من البشر ليست لهم ملامح محددة لكنك تعرفهم بالوهج الخاص فى عيونهم، بكلامهم ومنطقهم، بالعبقرية التى تلد الرؤى، بآمالهم التى تلامس السماء. النسبة النادرة فى كل شعوب الأرض، والثروة الحقيقية التى تتبارى الأمم فى الحفاوة بهم وتذليل العقبات أمامهم، والرعاية والاهتمام. هم الذين صنعوا الحضارة الحديثة، والخريطة الجينية، واكتشفوا الكهرباء. هم الذين حطموا الذرة وأطلقوا قواها الخفية، ورتقوا ثقوب قلب الجنين فى رحم الأم. وصنعوا الطائرة والسفينة، والهاتف واللاسلكى، والأمصال والجراحات الدقيقة، والحاسب الإلكترونى والصواريخ عابرة القارات. أحلام كانت فى قلوب البشر قبل أن يترجمها العلم إلى حقائق وأفعال. ولسان حالهم يقول كالمتنبى: «إذا كنت فى أمر مروم / فلا تقنع بما دون النجوم فطعم الموت فى أمر حقير/ كطعم الموت فى أمر عظيم» أما عندنا فى مصر فيوجد اتفاق غير مكتوب على إهدار مواهبهم ونثر العقبات أمامهم وعرقلتهم بكل وسيلة ممكنة، وتحطيم روحهم المعنوية وإذلالهم بالفقر والحاجة بحيث يشعرون دائما بالدونية أمام أصحاب السلطة والمال. وبدلا من تيسير الحياة عليهم - ليتفرغوا لرسالتهم الحقيقية - تشغلهم بالبحث عن لقمة العيش ووسيلة المواصلات وتدبير ثمن وجبة دجاج.. ربما لن يصدق أحد حقيقة رواتب أعضاء هيئة التدريس فى مصر. ولكن يكفى أن قامة علمية نادرة فى شموخ وعطاء الدكتور محمد غنيم رائد الكلى فى مصر أعلن - فى حواره مع منى الشاذلى - أنه يتقاضى 3500 جنيه شهريا، أى أقل من ستمائة دولار. وهو بالمناسبة أعلى راتب يتقاضاه عضو هيئة تدريس فى مصر شاملا البدلات، ولكم أن تتصوروا رواتب من هم دونه من أساتذة الجامعات. هذا هو تقدير الدولة - السخية مع المحاسيب - للعلم والعلماء، وحتى مكافأة الجودة -التى صدّعوا بها رؤوسنا - لم يتقاضوا دفعتها الثانية إلا بعد أن اضطر شيوخ العلماء فى مصر إلى وقفات احتجاجية لعدة أيام بعد شحنهم فى الحافلات. وإذا كان فقيه بحجم الشيخ الغزالى قد امتلك شجاعة الإفتاء بأن وكلاء الوزراء فى مصر الذين لا يملكون دخلا إضافيا تحق لهم الزكاة!، فهل تنتظر حكومتنا فتوى مماثلة تدرج أساتذة الجامعة الذين لا يملكون دخلا إضافيا تحت بند «مستحقى الزكاة»؟!.