حين كان الأصدقاء يشكون بعد الثورة بحوالي بضعة أشهر من عدم تغيّر الحال للأفضل، ومن الخراب الذي حلّ بالبلد، وذيول الحزب الوطني والمستفيدين منه الذين هم في كل شبر من تراب البلد ولن يتركونا بسلام.. كنت أصبّ أنهار نصائحي بضرورة الصبر والتأني، وأن الثورة ليست عصا ساحر ستحيل الحال من خراب لعمار في يوم وليلة.. لكن اليوم ومع بقاء الحال كما هو بل أسوأ، ومع كل هذا الكم من الحوادث اليومية التي تشي بكراهية غير مسبوقة في نفوسنا وغير مبررة ولا مقبولة.. بتّ عاجزة عن فتح فمي والتلفظ بأي مما كنت أتشدّق به سابقاً عن الصبر والتأني والغد الأفضل.. تستيقظ كل يوم لتجد همّا جديدا يضاف لك.. من عراك الساسة على الكعكة بلا حرص حقيقي أو مخلص على المصلحة.. لاتهامات كل فصيل للآخر بالعمالة والتهديد بكل ما لديهم من أسلحة كلامية أو مادية.. لحوادث تبرز ما يتشابك في نفوس الشعب من رغبة ملحة لتدمير كل ما لا يشبهه، وما ومن لا يفهمه، ومن يبرز رغبة في الاختلاف عنه.. صار معتادا أن نسمع يوميا عن حوادث تهجير للمسيحيين.. ويليها -كما في العهد القديم- تكذيب من القيادة الحاكمة والمسئولين الجدد.. واتهامات مرتّبة يقذفها المشايخ في وجه من يطالب بوقف المهازل بكونه عدوا للوطن وللإنسانية وللعالم كله.. وكأن عجلة الزمن تدور في الاتجاه المعاكس! أجريت انتخابات لها ما لها وعليها ما عليها، وعقد الشعب الأمل على المرحلة الجديدة في تغيير ما كان .. وإذ بنفس الأحداث لكن في شكل جديد كي لا يملّ المشاهدون.. قرارات تؤخذ دون استشارة الشعب.. وقروض من البنك الدولي بشروط لا يتم تعريف الشعب بها رغم أنه من سيدفع ثمنها.. ثم اعتراضات رافضة تظن أن الزمن تغيّر بعد الثورة.. لتنهال الأبواق المهاجمة للمعارضين بكل أنواع التدني الأخلاقي، وكل أنواع النفاق الممجوج الذي يبدو كلعنة فرعونية تلازمنا للأبد.. وكأن كل يوم هو تحدّ للمواطن في أن يأمل بغد أفضل.. وحين يعرب عن يأسه في ظل كل الظلام الذي حوله يتهمونه بالسلبية والسوداوية ورغبته الشيطانية في تدمير نفسية الشعب، وكأنه ليس من هذا الشعب الذي يتحدث الجميع بلسانه رغم أنه أفصحهم! تذكّرت جزءا من رواية "قالت ضحى" للكاتب المبدع دوماً بهاء طاهر، كان يتحدث فيها عن حال المجتمع بعد ثورة 52 وما آلت له النفوس، وما أصاب الكثيرين من تشوّهات.. ورغم أنها تتحدّث عما دار في التاريخ منذ 50 عاماً لكن يبدو أننا لا نعير حصص التاريخ اهتماما كافيا بالمدارس.. يتحدث فيها البطل عن سبب الفساد بعد قيام الثورة وسبب بقاء الفاسدين في مناصبهم بعد أن تم الزجّ بمن أبلغ عن الفساد في جهنم التحقيقات؛ لتصديقه الشعارات عن ضرورة محاربة الظلم والفساد... وإلخ. ثم تطرّق للحديث عن سبب قيام الثورات.. وهو القضاء على الظلم. يقود الظلمُ الناس للغضب، فيأتي ثوار ينتفضون ويعدون الناس بالعدل وبالقضاء على كل أفاعي الفساد والقهر.. وبالفعل ينجحون في اقتلاع رأس الأفعى؛ لنكتشف أن الأمر ليس درس أحياء.. فذيل الأفعى متغوّل في التربة وينتج مئات الرؤوس الجديدة الفاسدة.. كل رأس جديد يحمل اسماً جديدا يتناسب مع المرحلة الجديدة.. كما حدث في ثورة فرنسا أزيل رأس لويس السادس عشر وأتى رأس جديد اسمه روبسبيير بمسمى جديد للفساد وهو (حماية الثورة من أعدائها) الذي لا دور له سوى القضاء على أصدقاء الثورة وليس أعدائها! وكما يقول بهاء طاهر في روايته: "تلد الحية رأساً جديداً (..) يتوّج الظلم من جديد باسم مصلحة الشعب. ويصبح لذلك اسما جديداً (الضرورة المرحلية).. الظلم المؤقت إلى حين تحقيق رسالة الثورة.. وفي هذه الظروف يصبح لكل طالب عدل اسم جديد، فيصير "يساريا أو يمينيا أو كافرا أو عدوا للشعب" حسب الظروف". ألم تصِبْك حالة الdeja-vu مثلي، وتتساءل بريبة متى كُتب هذا الكلام بالضبط؟! أفلم تصِر الاتهامات لمن يخالف الرأي بأنه "يساري"، "علماني"، ومؤخراً "ليبراليين كفرة"!! ألم تنهَلْ علينا دعوات "الاستقرار"، ونعت كل من ما زال يطالب بجزّ أعناق الفساد عن آخرها ب"المخرب" "الأناركي" عدوّ المجتمع؟! نهاية القول أنه لا يكفي جزّ عنق الحية؛ لأن الذيل أثبت فعالية تهدد بعودة الرأس من جديد.. ما زالت هناك أماكن لم تدخلها عصا التطهير.. هناك أماكن لبست ثوبا جديدا للنفاق للمسئول الجديد حتى لا يفوته القطار الجديد.. ما زال المعارضون يُتهمون بالعمالة والخيانة تملقا للحاكم الجديد.. الفساد لا يكفيه قطع العنق.. بل لا بد من البحث بحزم عن ذيوله وأطرافه وحرقها؛ ليتبخر أثره تماماً، وإلا فكل ما تم التضحية به سيصبح أثراً بعد عين.. أو كما يقول بهاء طاهر: "يظهر رأس آخر للظلم هو الاستقرار، وباسمه يجب عودة كل شيء كما كان قبل الثورة ذاتها".. وعندها سنصاب جميعا بالحيرة عندما يسألنا الأبناء عن ثورة 25 يناير.