عام 2001 بدى الضيق والغضب على ملامح الإعلامي الكبير حمدي قنديل، وهو يطلّ علينا في برنامجه الشهير وقتها "رئيس التحرير" متسائلا عن جدوى عرض 5 مسلسلات "بحالهم" في شهر رمضان الكريم، وتأثير ذلك على العبادات والروحانيات، مؤكّدا أنها تخمة درامية تفوق في خطورتها تخمة الأكل والشرب. واليوم، وبعد مرور 10 أعوام على سؤاله الذي يبدو الآن كوميديا مثيرا للضحك بعد أن فاقت المسلسلات الرمضانية الرقم 60، لم نعد نطمح بتقليل عدد المسلسلات المعروضة -لا سمح الله- بقدر ما نحلم -فقط نحلم- أن تحترم هذه المسلسلات حُرمة الشهر الكريم الذي لم يُفرّق بعض الفنانين فيه بين ليلة القدر والليلة الحمراء. مَن صادفه حظه العاثر بمتابعة مسلسل "الزوجة الرابعة" لمصطفى شعبان ابن "الحاج متولي" الذي كبر الآن، وأصبح هو الآخر يبحث عن 4 زوجات مثل أبيه؛ فعليه أن ينسى تماما كلمة "رمضان" من قاموسه، وهو يستمع للأحاديث المباشرة والصريحة التي تدور عن الجنس والفياجرا بين الحاج "فواز" ودائرة معارفه ليقوى على إشباع زوجاته الأربعة، وبالطبع الحُجّة الجاهزة لمن يعترض.. "الفياجرا والجنس موظّفين في خدمة السياق الدرامي". وفي إحدى حلقات مسلسل "مع سبق الإصرار"، لا تمانع عبير صبري من ارتداء الملابس المكشوفة التي تكشف وتثير الشهوات في الشهر الكريم وطبعا لا تنسى وضع ال"تاتو"، قبل أن تدخل في علاقة جنسية على الشاشة حتى يتم القبض عليها في شقة مشبوهة، وكالعادة نفس المبرر.. "هذه المشاهد والملابس في السياق الدرامي حتى تعبّر عن الشخصية بشكل واقعي ولا يفقد المسلسل مصداقيته". فإذا كان الجمهور يُعلن رفضه وخجله من الإباحية التي غزت بيوتنا بشكل عام في أي وقت من أوقات السنة؛ فما بالنا وقد تجاوزت العديد من الأعمال الدرامية الخطوط الحمراء التي تفصلنا عن مشاعر ومناسك وروحانية الشهر الكريم؟ والآن.. وبعد أن شارف الشهر الكريم على "النفاد"، بعد أن تحوّل من شهر مكوّن من 30 يوما مثل باقي شهور ربنا، إلى سلعة درامية بحتة، دعوني أعرض على حضراتكم بعض الملحوظات الآتية: 1- حجة السياق الدرامي ليست مبرّرة، إذا ما أراد المخرج والكاتب استخدام حيل درامية وأساليب ذكية تعرض الفكرة بوضوح دون فجاجة ووضوح إباحي يفطّر الصائم ويضيّع حسناته. 2- بتنا أمام وباء جديد اسمه "إنفلونزا المسلسلات"، لكنه -بكل أسف- لا تجدي معه مجموعة "الإنفلونزا العادية" ولا عقار "التامفيلو" المضاد لإنفلونزا الخنازير، وفي خضم هذا "الإسهال" الدرامي فَقَدت الدراما قيمتها كفن له هدف ورسالة. 3- ارجعوا معي بالزمن سنوات قليلة، حين كانت معظم المسلسلات تستند على أفكار نبيلة وقيم راقية، بشكل يمتع المشاهد ويجدّد كيانه ووجدانه، حتى إن الناس في الشوارع والمقاهي كانت تتساءل عما حدث في الحلقة التي فاتتهم، حين كان أفراد الأسرة يجتمعون حول شاشة التلفاز لمشاهدة أعمال قليلة، لكنها أثمن وأغلى من كل هذا الهراء الذي يملأ رمضاناتنا الحالية. 4- أخبروني عن مسلسل شاهدتموه في رمضان السابق أو الأسبق أو ما قبلهما يُساوي في روعته وجماله "رأفت الهجان" و"حياة الجوهري" و"حسن أرابيسك" و"لن أعيش في جلباب أبي"... وغيرها من روائع الدراما المصرية والعربية التي خرجت ولم تعد في زمن "الدراما الجميل".. لم تكن وقتها موجودة تلك التقنيات الحديثة التي غيّرت شكل الصورة ومساحتها على الشاشة.. لم تكن الديكورات والإضاءة قد تطوّرت لهذه الدرجة.. لم يكن هناك مخرجون سوريون يدخلون آلياتهم ومفرداتهم الإخراجية بطريقة لا أنكر أنها زادت من جمال الشكل، لكنه صار باردا برود الثلج، ليختفي معه ذلك الدفء الذي كنا نشعر به ونستشعره في مسلسلاتنا القديمة، لتتطوّر الدراما وتقفز في شكلها الخارجي قفزات واسعة، غير أنها في مضمونها وعمقها ودفئها تراجعت إلى ما قبل البداية نفسها. 5- تفكك النجوم الذين كانوا يشاركون في تحمّل مسئولية عمل درامي مهم، ليتحمّل كل منهم مسلسلا بمفرده، بشكل سرق منا أوقاتنا وتركيزنا، وأدخلنا رغما عنا مع القنوات الأرضية والفضائية والمعلنين في سباق عبثي لم يستفِد منه سوى النجوم والمنتجين، بعد أن غزت مافيا الإعلانات الشاشة الصغيرة، فأفسدت الدراما، وأصبحت المسلسلات عبارة عن إعلانات تتخللها فواصل درامية، دون أن يبالي نفر بما أتبع ذلك من تشتت وحيرة للجمهور، وأزمة ورق بحق وحقيقي بعد أن صار معظم الكتّاب يعتمدون على النحت والاستسهال، وهم يعلمون تمام العلم أن القنوات وشركات الإنتاج التي تفتح فمها من الأذن للأذن في البحث عن أي ورق يتعاقدون به ومن خلاله مع النجوم سوف يقبلون بما هو متاح دون أن يملكوا الوقت الكافي للقراءة والتأنّي في الاختيار؛ فتنوعت المكاسب، بينما ظلّ الجمهور هو الخاسر الوحيد، بخلاف ظاهرة "النجوم المبشرون بالإعلانات" الذين تنحصر قدراتهم فقط على جذب المعلنين، وسيب بقى فكرة المسلسل والموهبة. 6- فَقَدت الدولة -متمثّلة في وزارة الإعلام- دورها في الحفاظ على المشاهد المصري، وعرض ما يناسبه من عادات وتقاليد، وكان في الإمكان أن يحدث ذلك من خلال سعيها لإنتاج حصري يعتمد على الورق الجيد، ويهتمّ بالكَيْف قبل الكم، لكن ماسبيرو انجرف مثل باقي الفضائيات خلف هوجة الإعلانات، وأقبل على شراء المسلسلات المعروضة في السوق، دون إنتاج مسلسلات لها هوية وطابع مصري أصيل، لتتحوّل شاشات التليفزيون المصري إلى محطة عرض فقط، تؤجّر بالمفروش لمن يدفع أكثر.