استعرضنا في الحلقة الماضية تجربة فرنسا في أعقاب قيام الثورة الفرنسية عام 1789 وكتابة الإعلان الدستوري، وأهم مميزاته وعيوبه، وتعاملها مع النظام الملكي وطبقة النبلاء وأعضاء الكنيسة. وهذه المرحلة (من 1789 - 1792) إذا جاز لنا تسميتها فيمكن تسميتها بمرحلة "الملكية الدستورية"؛ حيث إنها جمعت بين النظامين الجمهوري والملكي، فبقي الملك ولكن بسلطات أقلّ، في حين ظهرت الجمعية التشريعية (البرلمان)، وتم فصل السلطة القضائية عن سلطة الملك. أما المرحلة الثانية والتي لم نستكملها في الحلقة الماضية فهي مرحلة المد الثوري التي تصاعد فيها التيار الثوري داخل فرنسا بصورة واضحة، فالثورة الفرنسية كانت تصاعدية ولم تكن في أول عامين قد بلغت ذروتها بعد؛ حيث إن الملكية لم تسقط مرة واحدة بل سقطت على مراحل، وهي مرحلة كتابة الدستور الفرنسي الثاني في تاريخها. دستور 1791 هو ثاني دساتير فرنسا المكتوبة في تاريخها، وقد أقر في 3 سبتمبر من هذا العام، وقد أسس فيه لفكرة أن الأمة هي مصدر السلطات، وقد أبقى هذا الدستور على فكرة النظام الملكي الدستوري الذي يجمع بين وجود الملك وبين وجود النظام الجمهوري في الوقت نفسه، بحيث كما سبق أن ذكرنا يكون هناك برلمان فرنسي يتكون أعضاؤه من (365 عضوا تابعون للنظام الملكي - 330 عضوا من التيار الليبرالي الجمهوري - 250 من الأعضاء المستقلين - عدد من الأعضاء الذين ينتمون للتيار الثوري المتطرف)، وهناك ملك يحق له اختيار الوزراء المعاونين له، ويحق له أيضاً الاعتراض على قرارات البرلمان إذا ما رأى أنها تتعارض مع المصلحة العامة وأمن البلاد القومي لصالح المصالح الخاصة للأعضاء، ولكن كثيرين وقتها توقّعوا أن الدستور بهذا الشكل لن ينجح ولن يستمر طويلاً. وبالفعل لم تسر الأمور على خير ما يرام، ومع أول انعقاد للبرلمان الفرنسي أراد المجلس أن يمرر تشريعا يلزم أعضاء الكنيسة الرومانية بفرنسا بالالتزام بالواجبات التي يقرها الدستور المدني، وهو ما اعترض عليه ملك فرنسا مستخدما حق الفيتو، مما تسبب في فراغ دستوري وصدام سياسي كبير، مما ترك البلاد في حالة هرج ومرج وقوات جيش وبحرية غير مسيطر عليها بصورة واضحة. في أعقاب ذلك وتحديدا يوم 10 أغسطس من العام 1792 اقتحم عدد من المنشقين عن الجيش والميليشيات المدنية المسلحة مدعومة بحكومة باريس الثورية باقتحام قصر التوليري المطل على نهر السين وقاموا باغتيال الحرس السويسري المكلف بحراسة الملك وقبضوا على كل أعضاء الأسرة الحاكمة، وأوقف البرلمان الفرنسي النظام الملكي بأغلبية ثلثيه. وعلى الفور اجتمع البرلمان مرة أخرى يوم 20 سبتمبر من العام نفسه، وقضى بكتابة دستور جديد تماما، وإقامة النظام الجمهوري تحديدا يوم 21 سبتمبر من العام 1792. وقد اعتبر المرسوم الذي أصدره تشارلز ويليام فيردياند -دوق برونسفيك- يهدد فيه بالانتقام من كل شخص يحاول إيذاء العائلة المالكة دليل إدانة ضد الملك، وتحديدا في عام 1793 تم إعدام الملك لويس السادس عشر في قصره الملكي الذي أصبح قصر الثورة، ويسمى حاليا قصر الكونكورد، وذلك بتهمة التآمر على الحرية العامة والأمن القومي، ووافق البرلمان على هذا القرار بأغلبية 368 عضوا في مقابل 288 رفضوا و 72 وافقوا على إعدامه ولكن بشروط. في 27 أغسطس عام 1795 كتب الفرنسيون دستورهم الثالث الذي نصّ على وجود مجلسين مجلس يضم 500 عضو يشبه مجلس الشعب في مصر، وآخر هو مجلس الشيوخ ويضم 200 عضو، ويكون مهمة الأخير اختيار أعضاء السلطة التنفيذية من بين قائمة أكبر يعدها مجلس الخمسمائة عضو. وقد أسس هذا الدستور الجديد لنظام ليبرالي جمهوري مبني على أساس دفع الضرائب، وأصبح فيه شأن أكبر للحكومة المركزية، وتقليل لحرية الصحافة والمنظمات الأخرى. كثير من الخبراء يعتقدون أن دستور 1795 كان نهاية للمرحلة الثورية الفرنسية، وبداية لاستقرار حقيقي في فرنسا، خاصة بعد إعدام الملك، وتلاشي فرص عودة الملكية، كما لم يعد هناك مبرر لغزو فرنسا من قبل الأنظمة الملكية بأوروبا، فيما تم كبح جماح الثورة والتيار الثوري مع تضاؤل عددهم بحكم رغبة هذه الجماعات الثورية في الحصول على الاستقرار المنشود. المشكلة أن الحكومة المركزية التي اختارها البرلمان الفرنسي ومجلس الشيوخ عمدت إلى قمع الحريات بصورة واضحة، وتقليل المدّ الثوري قدر الإمكان، واستخدموا النفوذ البوليسي بصورة واضحة؛ من أجل إطالة فترة بقائهم في الحكم قدر الإمكان، واعتمدوا أيضاً في ذلك على قوات الجيش. وقد كان من مصلحة بول دي باراس -أحد حكام فرنسا في هذا الوقت- إبقاء الجيش الفرنسي في الدول الأخرى؛ من أجل الحصول على مصدر رزق من خلال الجزية التي كانوا يدفعونها، فضلا عن أن عودة هذه الجيوش من الخارج سوف تزيد من العبء الاقتصادي، وقد تؤدي لارتفاع طموحات جنرالات الجيش في السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد. ولكن الفساد كان قد استشرى بصورة فاحشة من قبل حكومة باراس، وما زاد الطين بلة تسامحه مع بعض أعضاء طبقة الكنيسة الرومانية في فرنسا، والتي كان التيار الثوري يعاديها تماما، وهو ما لاقى معارضة شديدة مهدت لسيطرة الجنرال نابليون بونابرت على الحكم. بمجرد تولي بونابرت مقاليد السلطة قام بالإطاحة بحكومة باراس وتعيينه مجلس الشيوخ بدلا منه، الذين بدورهم نصّبوه إمبراطورا لفرنسا. بسبب العداء الكبير الذي صار بين فرنسا وبين معظم دول أوروبا؛ لتهديدها عروشهم بفكرة الإطاحة بالملك وإقامة نظام جمهوري، فقد دخل نابليون حروبا عديدة، وغزا معظم أوروبا بل وعين أقاربه كلملوك في عدد من الدول التي غزاها، وهو ما تسبب في انتشار أفكار وقيم ومبادئ الثورة الفرنسية الثورية بهذه الصورة الواسعة، قبل أن يُهزم في غزوة روسيا عام 1812 ثم يهزم مرة أخرى على يد تحالف 7 من دول أوروبا. وبهزيمة دول التحالف لنابليون تم استعادة عرش الملك لويس السادس عشر عام 1815 قبل أن ينجح الفرنسيون فيما بعد في الإطاحة بالنظام الملكي، واستعادوا الجمهورية الرابعة ثم الخامسة التي أسسها الكولونيل شارل ديجول، وتعتبر فرنسا حاليا واحدة من أكثر الجمهوريات تقدما وأكثرها احتراما للدستور وضوابطه.