"الكبير اللي كان حاكمهم بالحديد والنار مات، والأولاد بدأوا ياكلوا في بعض.. كانوا إيد واحدة لحد ما قضوا عليه، وبعدين اتفرقوا على الميراث".. التيمة المملة لأي فيلم عربي تحدث الآن في مصر.. كنا نحلم بمجلس الشعب، تماما كما قال عزيز أباظة في السد العالي: "كان حلما فخاطرا فاحتمالا ثم أضحى حقيقة لا خيالا".. نعم أصبح حقيقة تتحرك أمام أعيننا كل يوم في جلسات يومية تماما كجلسات محاكمة مبارك وزبانيته، لكن من قال إن هذا كفيل بوقف سيل الغضب أو بتهدئة خواطر الثائرين.. الأمر لا يتعلق هنا بالمنطق أو بالعقل، بل بالغضب ثم الغضب ثم الغضب.. الإله الأوحد حاليا.. لا أريد أن يبدو انفعالي من وراء الكلمات، ولكنه انفعال من أجل مصر.. البلاد التي لا يريد لها أبناؤها أن تضع أقدامها على طريق التقدم أو حتى التقاط الأنفاس.. نعم أقول لا يريد.. لأنهم لو كانوا يريدون لفتحوا عقولهم قبل آذانهم ليسمعوا ويستوعبوا ما نقول، ولكن لماذا يسمعون؟؟ إنهم يأتيهم الوحي الذي لم نرتقِ بعد لاستقباله، إنهم وحدهم الذين يملكون عقد الوعي الحصري.. مشاعرهم تخبرهم بأن المجلس العسكري يلتفّ على الإرادة الشعبية، ولو أقسم المجلس بأغلظ الأيمان سيقولون لك: بعد ما يستولي على السلطة هيصوم 3 أيام!! ولو قلت لهم إن كل الخطوات تؤدي إلى تسليم السلطة للشعب سيقولون لك: هيعمل كنترول زد ويتراجع عن كل ده!! ولو قلت لهم إن الشعب لن يسكت ساعتها سيبتسمون لك بألمعية قائلين إنها صفقات يا صديقي!! تخيّل الوضع الذي أصبحنا فيه واضحك معي: أصبح الإخوان أصحاب أجندات، ويعقدون صفقات مع المجلس العسكري.. ليس بعيدا أن يكونوا يتقاضون اليورو والكنتاكي على نفقة البرلمان.. أصبحت الدروع البشرية تحمي البرلمان من الثوار بعد أن كانت تحمي المتحف المصري وغيره من البلطجية، وفي النهاية الإخوان هم الذين تُرفع في وجوههم الأحذية باختلاف ماركاتها ومقاساتها، ورؤوس الإخوان هي التي تُهشّم بالحجارة من هذا وذاك، ووجوه الإخوان هي التي يبصق عليها الجميع كل على حسب عقيدته!! أصبح الإخوان ممسحة البلاد التي تحمل أطنانا من التراب، كل هذا بجرم وحيد أنهم لم ينساقوا وراء عاطفة الثورة، وقرروا أن يضبطوا مشاعر الغضب، ويتناغموا مع صوت الشعب الذي أعطاهم ثقته؛ عملا بكلمة قالها لهم حسن البنا منذ أكثر من ستين عاما: "ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول، وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف.. ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمُعلّقة، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها وحوّلوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض، وترقّبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد".. لا أريد أن أكون منحازا فلم أكن كذلك يوما، ولكن أن أتحوّل أنا بكل ما غرسته في نفسي من محاولة لفهم الطرف الآخر إلى متهم بالتحيز، فيجب أن يخاف الجميع من عواقب حالة الاستفزاز والضغط العصبي والتخوين والتلفيق والتهييج التي أصبحت اللغة الأولى في منهج بعض القوى الثورية حاليا.. يجب أن نحذّر من حالة انقسام حادة في صفوف الثورة، واندساس متوقع بين الصفوف لتأليب الطرفين، وتنتصر اللعبة التي لا تخيب في تصفية الثورة من الداخل.. أتمنى أن يعي الثوار أن تجمعاتهم أصبحت حاضنة لكل الناقمين على الثورة، وأن فعالياتهم غير المنظّمة أصبح يسكنها أعداء الثورة المتخفّون؛ ليخترقوا بنيانهم ويحدثوا كل الدمار الذي يحدث باسم الثوار، فيقلل من أسهمهم ويُفقدهم رصيدهم في الشارع، والأمثلة كثيرة عديدة على جدران مجلس الوزراء ومحمد محمود.. وهم لا يجدون لهم ذنبا فيزداد عنادهم مع حالة الرفض الشعبي لهم، وتزداد حالة حوار الطرشان التي تعلو يوما بعد يوم.. أودّ أن تعيد الحركات والائتلافات الثورية موقفها، وتعيد ترتيب صفوفها، وتحديد أولوياتها، وتحدد طريقة حوار جديدة مع بقية القوى وتغيّر طريقة الخطاب مع الشعب.. عليها أن تعلم أنها ستخسر كثيرا لو خسرت الشعب، ولو راهنت على غيره فهي تكتب بيدها كلمة النهاية.. هذا تحذير مشفق يتمنى حالا غير الحال.. حين خسرت قائمة "الثورة مستمرة" في انتخابات مجلس الشعب لا يجب أن يكون البديل أبدا إعلان راية العصيان على البرلمان بالتدريج، أو محاولة إثقاله بملفات تطول وتطول، بل كان الواجب على قوّاد الثورة أن يعيدوا حساباتهم ويقفوا مع أنفسهم هم، ويبحثوا عن الخطأ الذي أفقدهم رصيدهم في الشارع، ولماذا لم يعد المصريون -الذين التفّوا حولهم حتى نجحت الثورة- يطيقون ما يحدث الآن؟؟ هناك جرس إنذار يدق يجب أن يسمعه قادة الحركات الثورية ولا يتجاهلوه؛ لأنهم لو تجاهلوه فستكون العاقبة وخيمة فوق رؤوسهم هم.. هذه نصيحة خالصة لوجه الله لشباب ضحّوا بالكثير وبذلوا الكثير لأجل الشعب، وقادوا ثورة تاريخية أحنت أعناق العالم كله احتراما وإجلالا أن يقعوا في فخّ التخوين والتحزب، وأن يستمروا في نزيف الاحترام والشعبية؛ بسبب ممارسات جزئية مضحّين لأجلها بالأهم؛ استقرار مصر وبنائها وإعادة هيكلة مؤسسات حقيقية بتوافق وطني هادئ ورصين.. أتمنى أن يسمعني أحد.