بالأمس كنت أؤمّن على دعاء الإمام في الصلاة على أرواح شهداء كوبري قصر النيل في ذكرى "جمعة الغضب".. تسري في جسدي رعشة الموقف، وأبكي وأنا أتذكر أكثر مشهد آلمني في ثورة يناير، المشهد الذي تأكدت حين رأيته بعيني أن هذا النظام الشيطاني سيسقط، وستنتصر الثورة لا ريب.. مشهد الشيطان الذي يضرب المصلين بمدافع المياه، متعمدا ضرب أجسادهم وتعذيبهم؛ لتفريقهم وهم بين يدي الله.. يومها عرفت أن الله سينتصر للحق، ولعباده الذين يُعتدى عليهم وهم يؤدّون فرضه.. بينما نبكي ونتألم ونتذكر وندعو على الظالمين بعقاب الله وعلى كل من ساعدهم ووقف معهم، فوجئت بالشيخ يدعو بحرارة: اللهم عليك بالإخوان الذي باعوا الثورة وشبابها!! تخاذلت يداي وتوقفت "آمين" في حلقي، فما تخيلت أني سمعت الكلمة حقا حتى كررها الشيخ، بل زاد بعدها قصم الظهور وتفريق الجموع وتشتيت الشمل كما كنا ندعو على اليهود.. فقط استبدل الإخوان باليهود.. فهل حقا باع الإخوان الثورة؟ وقبل الإجابة فأنا ضد الدفاع الأعمى الذي لا يستند إلى منطق، وكذلك ضد الاتهام الجزافي الذي لا يستند إلى دليل.. لن أقول إن الإخوان غلابة وطيبين وما يستاهلوش كده، ولن أقول إنهم شياطين بقرون ويستاهلوا الحرق.. سأواجه بكل قوتي عاطفة شعب عاطفي، تعوّد أن يحب ويكره لا أن يقيّم الحقيقة وفق معايير الصواب والخطأ، تعوّد على أن يصنّفك إما كملاك وإما كشيطان، تعوّد أن تكون طلباته إما بالإعدام وإما بالبراءة.. نعم نحن شعب عاطفي، اختصرنا الثورة في مبارك ثم عدنا إلى بيوتنا يوم تنحّى.. واختصرنا العداء في المجلس العسكري.. ثم قصرنا الاتهام على الإخوان.. نحن شعب عاطفي لا يحسن تقدير المواقف.. وعلى هذا لعب المتربصون بالثورة، لعب عليها مبارك بخطاب عاطفي استقطب الآلاف، ولعب عليه أعداء الثورة في محمد محمود ليهيجوا الدنيا ويقلبوا الطاولة على الانتخابات، ووقتها أذكّرك بكمّ التهم التي اتهم بها الإخوان لإصرارهم على إجراء الانتخابات، وكان قرارهم في صالح البلاد، ولكن لم يفكر أحد في الاعتراف.. لعب المتربصون بالثورة على مشاعر الغاضبين؛ لأنهم يعرفون أن استثارتهم سهلة، وتحريكهم من أهون ما يكون.. ومن قال إن الثورة صعبة، وتسيير المسيرات المليارية أمر يحتاج إلى مجهود؟ لكن هل يبني الغضب بيتا أو يصنع قرارا صحيحا؟ الغضب يهدم، وقد كان؛ فقد هدمنا نظاما كاملا بالغضب وحده، ولكن حين نفكّر في البناء فإنه يلزمنا الهدوء والتأني والتفكير وحسن التقدير.. قلنا مرارا إن الثورة قد انتقلت إلى طور جديد، ومرحلة جديدة تحتاج إلى أعصاب هادئة وقلوب متفتحة، وروح مغايرة لروح الغضب.. أنا واثق إلى الآن أن الثوار قادرون على تدمير أي نظام، بل على هدم نظام ديمقراطي حقيقي، قادرون على محاصرة مجلس الشعب أو وزارة الدفاع أو ماسبيرو أو غير ذلك.. ولكن هل هذا يندرج تحت بند البناء؟ هذا استمرار للهدم، والسؤال الأهم للثوار: هل يملكون آليات البناء؟ هل لديهم بدائل ديمقراطية يطرحونها في مقابل هدم النظام الحالي؟ مع الأسف الثوار لم يفكروا في البناء، وإنما استمرت روح الغضب تسري في قلوبهم.. لذا فقدوا السيطرة على الشارع وعلى الصناديق وعلى القرار الذي لا بد أن يكون سياسيا لا ثوريا، وفشلوا فيما طالبناهم به كثيرا بأن يصنعوا لوجودهم شرعية دائمة، وأن يكرّسوا لفكرهم وأيديولوجياتهم ببرامج عملية تتعدى الصراخ والهتاف.. وفي نفس الوقت لا يمكنني أن أتهم الثوار بالتجني التام على الإخوان بأنهم باعوا الثورة، فالإخوان فشلوا أيضا في الوصول إلى قلوب وعقول قطاع كبير من الثوار، ربما لم يخطط الإخوان للوصول لهم ولكن هذا أيضا تقصير.. كان الإخوان مطالبين بشرح برنامجهم وآلياتهم في تأطير الثورة في واقع الحياة، أعرف أن لهم فكرا ما بالتأكيد ليس ضد الثورة، ولكن لا أحد لديه أوبشن الدخول إلى النيات ومعرفة الضمائر!! الإخوان مش غلابة مظلومين، ولكنهم مقصرون تماما في التفاعل مع صوت مصر النابض، وضميرها الحي، كثير من الثوار يعبرون عن انطباعاتهم، ولذا فإن اتهامهم للإخوان يجب أن يوضع في الحسبان، وكل من أمّن على دعاء "اللهم عليك بالإخوان" لديه الحق في أن يعرف أكثر وأن يسمع ويرى عذرا منطقيا عن أسئلته.. لماذا لم يشارك الإخوان في فعاليات الثوار؟ لماذا لم يحتفوا بالشهداء في يومهم؟ لماذا لم يصلّوا مع المصلين اليوم وقد صلّوا معهم العام الماضي؟ التحرك بروح البطيخة الصيفي ليس في صالح أحد، فالجميع على حافة الهاوية، ولا يوجد مقعد مضمون في ربيع عاصف، وحتى الأغلبية لن تنقذ الإخوان من ثورة قد يكون سببها سوء الفهم أو سوء النية، ولكن لا يمكن إلقاء اللوم كله على من لم يفهم فقط.. الإعلام ثم الإعلام يا سادة.. الله وحده هو من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أما الناس فلهم الظاهر والله يتولى السرائر.