استعرضنا في الجزء الرابع خمس فرضيات وضعها د.يورجين تودينهوفر للوضع العام المسيطر على موقف الغرب من العرب والمسلمين وقضاياهم. والآن نستعرض الفرضيات الخمس الأخرى للكاتب. الفرضية السادسة "معاناة السياسة الغربية تجاه العالم الإسلامي سببها الجهل المريع لأبسط الحقائق!" يبدأ د.تودينهوفر فرضيته السادسة بتلك العبارة، ضاربًا مثالاً لحالة الجهل المريع المسيطر على رؤية الغرب للعالم الإسلامي، من خلال عرضه -المؤلف- إيران كنموذج لذلك الجهل. فإيران التي يصنفها الغرب كدولة متطرفة عدوة للإنسانية، تضرب أقوى أمثلة التسامح الديني مع مواطنيها اليهود والمسيحيين، ويرد د.يورجين على من يقولون إن غير المسلمين في إيران لا يتمتعون بكافة الحقوق السياسية للمسلمين بقوله: "وهل نمنح -نحن أهل الغرب- المسلمين حقوق المسيحيين واليهود نفسها في الحياة اليومية؟". ثم يؤكد أن الرأي العام الإيراني لا يوافق دائمًا الرئيس أحمدي نجاد في تصريحاته الحادة، بل ويضيف أن ما جاء براديكالي مثل نجاد إلى سدة الحُكم الإيراني إنما هو تقاعس الغرب عن التحاور مع سلفه الليبرالي محمد خاتمي؛ لأنه -على حد قول د.يورجين- لم يكن الدمية المطيعة للإدارة الأمريكية. كما يستعرض البروفيسور بعض المعلومات التي يجهلها -أو يتجاهلها- الرأي العام الغربي عن أوضاع المرأة والأقليات غير المسلمة ومستويات الأمن بالبلدان الإسلامية، مثل أن نسبة أساتذة الجامعات من النساء في مصر 30% بينما في ألمانيا 15% فقط، وأن نسبة الطالبات في الجامعات الإيرانية يصل إلى 60%، فضلاً عن مقارناته بالنسب المئوية بين مستويات العنف في الغرب وتلك الأقل بكثير في العالم الإسلامي. الفرضية السابعة في تلك الفرضية يتحدث البروفيسور عن تلك الازدواجية الفاحشة بين معاملة الإسلام واليهودية، فبينما يفكر المرء ألف مرة في الغرب قبل أن يوجّه مجرد نقد لأي شيء يمس اليهود أو اليهودية، تتوالى التصريحات المسيئة للإسلام بكل حدة ووقاحة، فهذا فرانك جراهام -المستشار الديني لجورج بوش الابن- يقول: "الدين الإسلامي دين منحط وشرير!". والمحللة الأمريكية آن كولتر تضيف: "إن علينا احتلال بلادهم وقتل قادتهم وتحويل شعوبهم إلى المسيحية"... إلى آخر تلك التصريحات العدائية تجاه الإسلام والمسلمين. ويتحدث د.يورجين عن المصالحة بين العرب وإسرائيل، فيؤكد أن الضمان الوحيد لأمن خمسة ملايين يهودي يعيشون وسط ثلاثمائة مليون عربي هو أن تتغير معاملة إسرائيل والغرب للفلسطينيين، وأن يُسَاعَدوا على بناء دولة فلسطينية مستقلة متكاملة، مستشهدًا بعبارة عالم السياسية اليهودي ألفريد جروسر: "الذي يريد أن ينفض عنه أوزار هتلر عليه أن يدافع كذلك عن الفلسطينيين". وينتقد د.تودينهوفر الساسة الغربيين الذين يدافعون عن حق اليهود في رد الاعتبار لما تعرضوا له على يد النازيين، بينما يتجاهلون حقوق ملايين الفلسطينيين المشردين، قائلاً: "إنها حقًا مسرحية غريبة عندما نرى بعض الساسة الغربيين يزدادون عزمًا وبسالة في النضال ضد ظلم الماضي، بينما تراهم فاقدين النطق حيال ظلم اليوم". ويؤكد المؤلف أن معاملة العالم الإسلامي بنفس الإنصاف الذي تُعامَل به إسرائيل هو السبيل الأساسي لحرمان الإرهاب الدولي من ذرائعه. الفرضية الثامنة هنا يتحدث المؤلف -بمرارة- عن استيائه من التشويه الذي يمارسه المتطرفون "المتأسلمون" لرسالة الإسلام الراقية، فيحوّلون سماحتها لتعصب، وتقدميّتها لرجعية ومرونتها لتشدد.. ويحرّفون ما جاء به الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- فيحوّلون دينهم لدين كراهية للآخر وعدوان عليه. ويؤكد د.تودينهوفر أن الإسلام الحق يتطلب الإيمان بالديانتين السابقتين عليه -المسيحية واليهودية- كما يؤكد أن الدين الإسلامي زخر بالنصوص القرآنية المبجّلة لموسى وعيسى والسيدة العذراء -عليهم السلام- وأن الأحاديث النبوية الشريفة بها ما يؤكد على الحفاظ على حقوق غير المسلمين المقيمين بالمجتمعات الإسلامية. ويقول البروفيسور: "لم يكن محمد رجعيًا كما هو حال كثير من الساسة المسلمين في زماننا، ولم يكن توّاقًا مثلهم إلى الرجوع 1400 عام إلى الوراء، لقد كان ثائرًا جسورًا وناظرًا إلى الأمام وداعيًا للمساواة، يملك الشجاعة على تحطيم قيود التقاليد". ويضيف د.يورجين أن على العالم الإسلامي أن يزيد من التوعية بمضمون وروح رسالة الإسلام لينزع عن الإرهاب قناع الدين ويحطم وثنيته، كما حطم محمد -صلى الله عليه وسلم- أوثان ما قبل الإسلام. الفرضية التاسعة يتحدث د.يورجين تودينهوفر عما يسمى "الحرب على الإرهاب" وتمارسه أمريكا وبعض الدول الغربية، واصفًا إياه بأنه "الطريقة الأقل ذكاء في مواجهة الإرهاب". فعلى حد رأيه أعطت الإدارة الأمريكية تنظيم القاعدة الدعاية والأضواء والشعبية الكبيرة من خلال غزوها لأفغانستان والعراق؛ إذ إن هجوم القاعدة على نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر لم يكن -على حد قوله- سوى وسيلة لعودة إعلامية مبتكرة وقوية للأضواء، وقد أعطاهم الأمريكيون أكثر مما كانوا يريدون بالهجوم على أفغانستان وإسقاط آلاف المدنيين تحت القذائف والقنابل الأمريكية.. ويقول د.تودينهوفر إنه على المسلمين أن يتخذوا موقفًا صارمًا من العنف باسم الإسلام، فإن على أهل الغرب كذلك التصدي لهؤلاء الذين يرفعون لواء الحروب العدوانية ضد الإسلام باسم محاربة الإرهاب، في حين أن محاربة الإرهاب تحتاج لمحاورات العقول وردّ الحجة بالحجة، لا الهجمات والغارات والعمليات العسكرية.. ويقول: "يزداد الإرهاب نموًّا مع موت كل طفل مسلم تقتله القنابل الغربية.. إننا نغرق كل يوم، بل نغوص بعمق في مستنقع سياساتنا". ويصف جبال تورابورا الأفغانية -التي شهدت معارك ضارية باسم محاربة الإرهاب- بأنها "الرمز الأكثر سخرية على غباء الحرب الصليبية على الإرهاب". الفرضية العاشرة "المطلوب اليوم هو فنّ السياسة وليس فنّ الحرب، وبالذات في الصراع في إيران والعراق وفلسطين".. بهذه العبارة يبدأ د.تودينهوفر فرضيته العاشرة والأخيرة، ثم ينتقد سياسة جورج بوش الابن في رفضه التحدث مباشرة لمن لا يميل إليهم من الساسة كالأسد ونجاد، واصفًا ذلك بأنه "من أكثر القرارات الطفولية والعبثية والبعيدة عن المنطق في عصرنا الحالي!". في تلك الفرضية يتحدث المؤلف عن السياسة والحوار كالسبيل الأجدى لخلق التفاهم والتقارب بين الشعوب وحل المشكلات الكبرى، كأزمة ملف إيران النووي، والوضع في العراق، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكل تلك المشكلات التي يتعامل الغرب معها بحدة شديدة، فيفترض أن الرد الوحيد على من لا يروقه من الأنظمة والدول هو العقوبات والتهميش والعزل وربما إعلان الحرب.. يعطي المؤلف مثالاً بالعراق فيقول: "لن يكون هناك حل للنزاع في العراق إلا عندما تتفاوض الولاياتالمتحدةالأمريكية -كما فعلت في فيتنام- مع قيادة المقاومة، وليس بالطبع مع القاعدة. إن جميع أفراد قيادة المقاومة الوطنية والمعتدلين من الإسلاميين مستعدون لمثل تلك المفاوضات". ويؤكد د.يورجين أن الاستراتيجية السليمة تجاه العالم الإسلامي تكمن في "فن الدولة" لا "فن الحرب" ضاربًا مثالاً بعملية التقارب بين الغرب ودول أوروبا الشرقية في السبعينيات والثمانينيات من خلال الحوار المنظم الهادئ، مستشهدًا بمقولة هانز ديتريش جينشر -وزير الخارجية الألماني الأسبق: "إن من كانوا ألدّ الأعداء تحولوا إلى أصدقاء دون أن تُطلَق رصاصة واحدة". بتلك الفرضيات العشرة ختم د.يورجين تودينهوفر كتابه الرائع "لماذا تقتل يا زيد؟" الذي يُعتبر بحق تجربة إنسانية عقلانية قيمة، لرجل مثقف قرّر أن يلمس الحقيقة بعينيه وأن يسمع بأذنيه شهادات الشهود، ليعود بتجربة يُفرغها في شكل نقد ذاتي قوي وصريح، وإنصاف لذوي الحق من الدعايات المشوِّهة والصور النمطية المضلِلة. وبهذا العمل ينضم د.تودينهوفر للمنصفين من العلماء والمفكرين الذين اهتموا بالقضايا العربية الإسلامية وحرصوا على إحقاق الحق فيما يخصها؛ كد.زيجريد هونكه، ود.مراد هوفمان، والراهبة كارين أرمسترونج وغيرهم من الشرفاء الذين يأبون إلا أن يقولوا كلمة الحق كما تأمر الأخلاق والضمير. "لماذا تقتل يا زيد؟" حقق مبيعات كبيرة جدًا في ألمانيا وأوروبا سنة 2008، ولفت الأنظار بالفعل لحقيقة ما يجري في العراق، وأيضًا لما يجري في النظرة الغربية للعرب والمسلمين من لبس وتدليس وتشويه.. فهو يستحق بالفعل أن ينضم للأعمال التي تضيف لرؤية الإنسان لأخيه الإنسان أبعادًا أخرى قد لا يعلمها أو يغفل عنها.. اقرأ أيضا: لماذا تَقتُل يا زَيد؟ (1) لماذا تقتل يا زيد (2) لماذا تقتل يا زيد (3) لماذا تقتل يا زيد ؟ (4)