عشت عمرا أقرأ الأخبار وأربط بينها بما يتيح لي استنتاج الصورة الكاملة، والتحليل السياسي لا يستلزم قدرات خاصة بقدر ما يستلزم قراءة فاحصة ومتابعة جيدة للجديد أولا بأول، مع قليل من الفطنة في استشفاف ما وراء الكلمات، ومعرفة بسيطة بالتاريخ؛ لأن الحاضر والمستقبل لا ينفصل بحال عن الماضي.. الأمر بسيط ولا يحتاج إلى ذكاء أو ضرب الودع أو وشوشة الحجر! مجرد عملية ربط بين معطيات متوالية توصلك في النهاية لاكتشاف مسار الخطوات بما يمكنك من معرفة الهدف النهائي، لا أحد هنا ينجح في تضليلك ولا التعمية على خطواته؛ فالرصد اليومي كفيل بفضح أي محاولة تعمية أو تغفيل.. الشيء المحير الذي حيّرني وأشكل عليّ وجعلني أتخبط على غير العادة، هو كيف نجح بعض الشباب المصريين في الوصول إلى هذا الحد من الحكمة والرشد السياسي والوقوف على قرار واحد بأن الثورة تضيع ويجب أن نعود من جديد لإنقاذها.. سؤال بريء والله بريء جدا ولا يحمل أي قدر من التهكم أو العداء.. بأي معطيات حكم الناشطون السياسيون في مصر على نتيجة أن الثورة في خطر؟؟ لأكون منصفا وواقعيا ولا أغنّي على حضرتك فأنا أتمنى حقيقة أن تكون الثورة في خطر، نعم أتمنى أن تكون الثورة في خطر؛ لأنني وقتها سأنزل وسينزل الجميع إلى الميدان دون شروط، وسأطالب وسيطالب الجميع دون ضوابط برحيل المتسبب في الخطر المحدق بثورة ضحيت وضحى الجميع لأجلها بالكثير، ولكن الأمور تختلط حين لا تكون المعطيات واحدة، وحين تتفرق الآراء وحين تتشتت التصريحات والمواقف بشأن الثورة التي نجحت والثورة التي ضاعت.. فهل حدثت في مصر ثورتان؟! أتخيل ميدان التحرير يوم 25 يناير وهو مقسم إلى ثلاث منصات؛ واحدة يقف عليها شاب مفقوء العين يهتف: آه يا بلدنا، والأخرى عليها رجل ببدلة ونظارة يهتف: كتر يا رب في أعيادنا، وثالثة عليها إبليس الرجيم يوزع السنج والمولوتوف.. نعود لمنطق "الناشط السياسي"، فتوصيف "الناشط السياسي" استشرى في البلد بصورة مخيفة، لدرجة جعلتها أقرب إلى الوظيفة، ولهذا أتساءل حقا وبنفس القدر من البراءة: هل يتقاضى الناشط السياسي أموالا مقابل عمله كناشط سياسي أم هو متطوّع؟ وإذا كان متطوعا -وهذا هو الأقرب إلى ظني- فهل يملك كل الأدوات التي تؤهله لإصدار أحكام على مختلف القضايا؟ أسأل بجدية ودون استنكار أو استخفاف؛ لأنني أتمنى أن يكون عندي ولو نصف معطيات تمكنني من الوقوف على حقيقة الموقف في مصر، وعلى درجة نجاح الثورة، من أين يحصل الناشط السياسي على معلومات موثقة تجعله يتخذ قرارا باستئناف الثورة أو التوقف إلى حين؟؟ كثيرا ما نسمع من الناشطين السياسيين عن أدلة يبرهنون بها على أن الثورة في خطر، والحقيقة أن معظمها لم تقنعني؛ لأنها ليست أدلة أصلا، بل هي مجموعة من التكهنات والتوقعات والمخاوف والظنون التي هي حالة طبيعية لأي ثائر في الدنيا.. "المجلس العسكري لن يسلم السلطة".. مجرد خوف لا دليل عمليا عليه ولا على غيره، ولهذا يبقى افتراضا حتى تخرج وثيقة تؤكده.. "النظام ما زال قائما".. ومن قال إن الثورة حكمت حتى الآن حتى تغير النظام الإداري للدولة؟؟ "المحاكمات الهزلية".. إلى من نوجّه غضبنا من المحاكمات؟ لم يأتني جواب واحد من الناشطين. "تعويضات الشهداء والمصابين".. مجرد مسألة مادية بحتة مرتبطة بالاقتصاد لا بالثورة. الناشطون السياسيون يمثلون الثائر الطبيعي، فالثائر الطبيعي كالأم، دائما طفلها لا يأكل جيدا، دائما عندما يكح فإنه مريض، دائما تحت عينيه شيء يستدعي القلق، بكاؤه الطبيعي أمارة على مصيبة، صمته الطبيعي إشارة إلى كارثة، كل ما يفعله دليل على خطر محدق، هذه هي طبيعة الثائر؛ لأنه تعب تعبا يستحق القلق، ولكن من قال إن هذه الحالة لن تصل بالأم إلى حالة مَرَضية ووسواس يضرّ بالأم والابن سويا؟؟ أسمع كثيرا عن ثوار يتحدثون عن الثورة باليوم.. مر ثلاثمائة وكام يوم على الثورة، وباقي مائة وكام يوم على تسليم السلطة، والمجلس كان يتحدث عن كام يوم ثم استمر لمدة كام يوم وباقي له كام يوم، هذه طريقة أطفال في الحكم على الأمور لا طريقة ناس كبار عاقلين، المسائل ما بتتاخدش قفش والدنيا اتخلقت في سبع أيام.. ونظرية الآن والآن فورا تنجح فقط إذا ا تفق عليها الجميع. يضرب النبي صلى الله عليه وسلم صورة رائعة لحالة مشابهة؛ حالة المسافر الذي يرهق جمله أو حصانه في السير فيقطع المسافة الطويلة في وقت قصير على حساب قدرة احتماله، ثم يهلك راحلته من التعب، فلا يجد ما يواصل به مسيرته، فلا هو وصل ولا أبقى لنفسه ما يوصله، وهو ما يسمى "المنبتّ"، في حديث جميل للنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى". وكلنا نعرف قصة الدبة التي قتلت صاحبها، ونحن نخاف أن يقتل الثوار وطنهم من خوفهم عليه، وأن يريقوا ماء وجه الثورة على ألسنة العامة وهو ما يحدث، وأن يعطوا فرصة للخبثاء والبسطاء أن يخوضوا في عِرض ثورة مجيدة مشرفة وهو الواقع.. هم بقلقهم الزائد الذي لا يستند إلى "تقارير طبية" سيقتلون طفلهم الذي ما زال يحبو.. لذا فمع احترامي لمعظم الناشطين وتضحياتهم بوقتهم وجهدهم وربما أنفسهم من أجل الثورة.. لكن لي رجاء.. أعزائي الناشطين السياسيين ابحثوا عن شغلانة تأكلكم عيش، ودعوا الثورة تأخذ وقتها الطبيعي في التحول والتحور في صورة مؤسسات، ولا تتسرعوا فتلتقطوا الثمرة قبل أن تنضج.. فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى..