كان ذعري قد أصبح بلا حدود؛ منذ أن اكتشفت أن هذا الرجل ذا الثياب السوداء يعرف اسمي، إصبعي المكسور محشور في الباب، والسيارة تنطلق بأقصى سرعة كأنها نعش طائر، أشعر أننا سنصطدم بقوة هائلة بشيء ما فجأة فتنتهي الحياة في ثانية. من هذا.. وماذا يريد مني؟ "من أنت؟" هكذا صرخت. وكان الردّ ضحكة طويلة ساخرة أخرى. كان الطريق الصحراوي قد انتهى، وقد دخلنا إلى حي التجمع الخامس قليل السكان نسبيا، وكان رجل ذو جلباب يعبر الشارع والسيارة تقترب منه بسرعة هائلة. صرخت: "انتبه!".
وبعد أقل من ثانية كنا قد اصطدمنا بالرجل الذي يبدو أنه طار من فوق السيارة، كان صوت تحطّم العظام مفزعا، هيئ لي أنه وَجَّهَ السيّارة نحوه عمدا ولم يحاول أن يتفاداه، لا شك أن هذا الرجل قد مات الآن.. رباه! لقد قتل الرجل ذا الجلباب وقَصَد ذلك، والأكثر أنه لم يهتزّ له جفن، في هذه اللحظة أدركت أنني هالك لا محالة، وأنني لن أخرج من هذا الموقف حيا. كانت الشوارع قد بدأت تضيق، وقد اصطدم بعدة صناديق قمامة وأشياء أخرى لم أدرك كنهها من شدة السرعة وشدة الذعر، أدار عجلة القيادة فجأة فكادت السيارة أن تنقلب وهي تدور حول نفسها، ارتفع جانب السيارة الأيسر عن الأرض وهي تدور ثم انطلق في الإتجاه العكسي؛ عائدا إلى الطريق الصحراوي السريع. - "ألا زلت تحبّ أغاني ميتاليكا يا أحمد؟". لم أتمكن من الرد، كان جسدي كله يرتعش من الخوف والألم، وكان إصبعي لا يزل محشورا في الباب. - "لماذا لا ترد عليّ يا أحمد؟ كن ضيفي!". ضغط زرا في عجلة القيادة، وانطلقت موسيقى الهيفي ميتال في أرجاء السيارة قوية عنيفة، من خلال نظام صوتي محيطي شديد النقاء. أنك مجرد لا شيء أين تاجك يا ملك اللاشيء أنت مجرد لا شيء لا شيء مطلقا راحل إلى الأرض المستحيلة أشعر أنني على وشك الإغماء، ولأول مرة ألاحظ الدم الذي يسيل على يدي. " أنا أعرف أنك تحبّ هذه الأغنية بالذات.. اسمع جيدا". انتبه لما تتمنّى انتبه لما تقول انتبه لأن ما تتمنى قد تندم عليه انتبه لأن ما تتمنى فربما تحصل عليه وعندها ينهار كل شيء وتكسر تاجك.. لاحظت بقعا من الدم على الزجاج. لعلها دماء الرجل ذي الجلباب. موجات الموسيقى تهز السيارة من الداخل، والموجودات بالخارج تتحرك نحونا بسرعة هائلة، أشعر أنني أطير وأنني أنسحب بعيدا. "قيادة السيارات يا أحمد تتطلب موهبة، ليس كل من تعلم القيادة يمكن اعتباره سائقا، وليس كل شخص تستطيع أن تتخذه رفيقا لطريقك". الطريق ينحني بشدة، إطارات السيارة تحتك بالرصيف. - "طيلة عمرك وأنت بحاجة إلى شخص مثلي ليكون رفيقك في الدرب". نكاد نصطدم بسيارة تسير ببطء، لكنه يتفاداها في اللحظة الأخيرة. - "لكن ما الذي حدا بك إلى الخروج في هذه الساعة؟ ألم يحذرك والدك من الخروج ليلا؟". أي شيطان هذا الذي يعرف عني كل هذه التفاصيل. - "ألا زلت لا تتحدث مع المجانين يا أحمد؟". التفت إليه وأخذت أتفرس فيه، إنه هو! بالرغم من نظارة الشمس التي تخفي عينيه استطعت أن أتعرف عليه، ليس شيطانا لكنه مالك! ثم يتضح أن الضوء الناعم في نهاية النفق هو قطار شحن قادم باتجاهك كان مالك زميلي في المدرسة، وكان مجنونا. مالك من عائلة غنية جدا، وهو الابن الوحيد لوالده، والده يمتلك سلسلة من المتاجر التي تبيع الأجهزة الكهربية، لكنه لم يكن مدللا كما قد يتبادر إلى الذهن، لعل والده كان يقسو عليه، ولعل هذا سبب ما جرى له، لا أعرف.. لكني أعرف أن بعض الأشخاص تكون لديهم هشاشة نفسية أكثر من غيرهم، كان مالك يتعرض لانتكاسات، وكان يدخل إلى المصحة عدة مرات أثناء السنة الدراسية. عندما يرجع كان يقول أنه كان لدى عمه في أمريكا، لكننا كنا نعرف أنه في كان في المصحة، مستشفى المجانين كما كنا نسميها. وكانت نظراتنا إليه تقول بأننا نعرف. كان مالك أقرب أصدقائي في البداية، كنت صديقه الوحيد، وكان يدعوني رفيق الحياة. كان يلازمني كظلي، وكان يردد لي دوما أننا يوما ما سنطير معا في السماء، كنت جديدا على المدرسة ولم أكن أعرف شيئا عن حالته، ولم يتطوّع أحد بإخباري، كانت له تصرفات كثيرة غير عادية، لكننا في هذا السن لا نميز كثيرا بين ما هو عادي وما هو غير عادي. ظللنا هكذا لفترة طويلة قبل أن أعرف عنه ما عرفت، وعندها تخليت عن صداقته أنا أيضا. ظل يتودد إليّ كثيرا ولفترة طويلة، لكني كنت أصدّه؛ لأني صرت أخاف منه، وكان والدي الذي كان يخشى عليّ كثيرا يحذرني من التعامل معه. موتي موتي موتي يا عزيزتي لا تتلفظي بكلمة واحدة موتي موتي موتي يا عزيزتي فقط أغلقي عينيك الجميلتين لعلي لم أدرك الآن كم كانت معاناة مالك، لعلي لا أشعر بها سوى الآن، كل هذه السنين قد مضت وقد كان مقدرا لي أن أراه مرة أخرى. سوف أراك ثانية سوف أراك في الجحيم بعد أن قطعت علاقتي به نهائيا. حدثت انتكاسة قوية لمالك دخل على إثرها المصحة، ولم نره بعدها أبدا، لعله انتقل بعدها إلى مدرسة أخرى، أو لعله ظل في المصحة لسنوات طويلة، لقد نسيته تماما كأنه لم يكن. "قيادة السيارة تحتاج إلى مهارة، وأعصاب ثابتة وردود فعل منعكسة سريعة، وتجاوب كامل ما بين العينين واليدين".
كان قد اقترب من ضاحية مدينة نصر، وكان نور الفجر قد بدء يبزغ من بعيد. "ليست القيادة في الطريق السريع شيئا، التحدي الحقيقي يكون عند الدخول إلى المدينة، وحبذا لو كانت الشوارع مزدحمة". شعرت أنه يسير بي إلى حتفي، لاشك أننا سنصطدم بسيارة أو شجرة أو حائط لتكون نهايتنا، صرخت فيه أن يتوقف، ومددت يدي اليسرى الحرة؛ أريد أن أحول اتجاه عجلة القيادة، ودون أن يوجه بصره نحوي لطمني بقبضته اليمنى في أنفي لطمة هائلة. شعرت بأنفي ينكسر وبالدم يسيل على شفتي وذقني، وبالغضب يستبد بي. جذبته من ياقته بيدي اليسرى، ومددت قدمي اليسرى أمامه لأضغط على الفرامل لكني لم أستطع الوصول إليها، فجأة أدار عجلة القيادة إلى أقصى اليمين ونحن على هذه السرعة فانقلبت بنا السيارة عدة مرات في الصحراء مثيرة عاصفة من الرمال، ثم استقرّت مرة أخرى في وضعها الطبيعي، وعلى الفور انطلق بها مرة أخرى. كان جسدي يصرخ من الألم، وجدتُ يدي قد تحررت من الباب، وعندما نظرت إليها وجدت أن إصبعي الصغير قد فقد العُقلة العلوية، والدم يسيل منه كصنبور مفتوح. موتي موتي موتي يا عزيزتي لا تتلفظي بكلمة واحدة موتي موتي موتي يا عزيزتي فقط أغلقي فمك الجميل فتحت عيني، أعتقد أنه قد أغشي عليّ لدقائق من شدة الألم. كان نور الفجر قد انتشر في السماء، وكنا قد دخلنا إلى شوارع المدينة التي بدأت تزدحم بسيارات الذاهبين إلى أعمالهم. - "هل استيقظت؟ لعلها كانت إغفاءة جميلة. ما بالك تبدو ذاهلا؟ لقد ارتاحت أعصابك فنمت قليلا!". أشعر أنني في حالة غير طبيعية، أشعر بهبوط شديد حتى أنني لا أكاد أستطيع أن أرفع ذراعي. لعلي فقدت الكثير من الدماء. نظرت إليه.. كان رأسه مصابا والدم يسيل على جانب عنقه، أخذ يناور ويمرق من بين السيارات بسرعة خارقة مستعرضا مهارة فائقة في القيادة والتحكم بالسيارة، كان متوحدا مع السيارة، كأنه هي وكأنها هو. كيف وجدني على الطريق وكيف تعرف عليّ في هذا الظلام؟ هل خطط لهذا من البداية؟ هل هي صدفة؟ هل هو قدري أن أجتمع به مرة أخرى؟ لا أعرف هل أتعاطف معه أم أكرهه؟ ألعلي أنا السبب الحقيقي في انتكاسته الأخيرة؟ هل سيكون للأمر معنى إذا قلت له آسف؟ أشعر بالسيارة تصطدم بكثير من الأشياء، أم لعلهم أشخاص وليسوا أشياء؟ لم أعد قادرا على التمييز. لماذا لا يتكلم؟ لماذا لا يعاتبني؟ كان توقف عن الضحك المجنون منذ فترة، لا صوت سوى موسيقى الميتال الصاخبة تصم الآذان، لكني أراه الآن وقد بدأ يبتسم والابتسامة تتسع شيئا فشيئا، وهو يصعد الكوبري ويضغط دواسة الوقود إلى نهايتها فيصرخ المحرك، انتابني شعور سئ. أكاد أوقن بما ينتوي أن يفعله. لا تبكي يا حبيبتي فمستقبلك في صندوق مستطيل لا تبكي يا حبيبتي كان يجب أن تتوقعي هذه النهاية قادمة تحطّمت مقدمة السيارة وهي تخترق سور الكوبري وتطير في السماء، وامتزجت ضحكته بصرختي ونحن نهوي بالسيارة من أعلى. لقراءة الحلقة السابقة اضغط هنا