لم يبقَ على التصويت لانتخابات مجلس الشعب إلا ما يقل عن أسبوع، والشعب المصري بأكمله على أهبة الاستعداد لخوض أول انتخابات تضعه على أول أبواب الديمقراطية الحقيقية وليست ديمقراطية زائفة. ولكن ما كنا نخافه جميعا ونحاول أن نضع رؤوسنا في الرمال مثل النعام حتى لا نراه، بدأت تظهر بوادره بوضوح تام.. ودون شعور وجدنا أنفسنا نرفع رؤوسنا من الرمال دون خوف أو رهبة لنقول إن ما يحدث الآن في مصر جعلها بدلا من أن تنتخب، تنتحب.
حقا بدأت مصر نحيبها على شهداء جدد لم نكن نتوقع استشهادهم بعد 25 يناير بهذه الطريقة إلا في حرب ضد إسرائيل على سبيل المثال.
أما أن تدهور الأمور في البلاد ما بين مجلس عسكري جعل لنفسه "أذنا من طين وأخرى من عجين"، وترك الداخلية ورجالها يعيثون فسادا في البلاد بقتل الثوار الذين حاولوا أخذ حق مشروع لهم، شرعه الدستور والقانون؛ ألا وهو التظاهر السلمي والاعتصام.. وبين وزارة رئيسها الذي كنا نعتقد أن يده الحريرية تعمل على تلطيف الجو، فأصبحت يدا "لا تهش ولا تنش"، وأصبح حريرها حرير حبل يلف على رقاب المصريين ليرضخوا من جديد إلى دكتاتورية تصوروا أنها مضت وانتهت إلى الأبد؛ فهذا ما لن يرضاه أحد أبدا.
ما كنا نتصور أن نرى عشرات القتلى والجرحى في ميدان التحرير بهذه الصورة مرة أخرى، بعد أن تخلصنا من مبارك وأعوانه؛ وخاصة في وجود جيشنا الذي كنا نضع له ألف خط أحمر؛ حتى وجدنا أن الخط الأحمر قد تحول إلى شريط أسود نضعه فوق صور الشهداء.
مرارة في حلوقنا ووجع في قلوبنا، والعجيب أن هذا الشعور ليس من أجل الشهداء الذين ذهبوا وضحّوا بحياتهم من أجل عزتهم وكرامتهم وكرامة مصرهم فقط؛ فهم سيأخذون ما يستحقون عند ربهم أحياء يرزقون بإذن الله؛ ولكن ألمنا مما فعله انخراط المجلس العسكري في العمل السياسي من مساس بالخط الأحمر والمكانة العظيمة للجيش الذي كان المصريون جميعا يضعونه فوق رؤوسهم، والسؤال هو: من أجل أي شيء تهتز هذه المكانة؟ لا ندري.
لقد عاش جيشنا طيلة عمرنا خطا أحمر يحترمه الجميع، وأقصد هنا بالجيش، الجيش العامل الذي يلزم ثكناته في صمت وهدوء؛ حتى يأتي دوره الذي خُلق من أجله؛ فما خُلقت الجيوش إلا للدفاع عن الأوطان من كل غادر أثيم، أو عندما تكون البلاد في محنة.
كنا لا نراه إلا إذا حطت بمصر كارثة لا يستطيع دفعها إلا الجيش، في الحروب والنكبات، كان الجيش دائما هو ظهرنا الذي نتكئ عليه ولا يخذلنا أبدا؛ حتى في نكسة 67 لم يكن الجيش هو سببها؛ ولكنها كانت قياداته التي خذلته هو قبل أن تخذلنا نحن، ولذا بقي دائما الجيش هو الملجأ والحصن.
فلماذا ما يحدث الآن؟ وماذا كان سيحدث لو أن المجلس العسكري عندما وجد الثوار قد فاض بهم الكيل من التباطؤ الرهيب، وحددوا ميعاد الجمعة للتظاهر من أجل جدول زمني واضح، وإلغاء وثيقة السلمي، وبعد أن فعل ما فعله الآن بعد سقوط الشهداء وحلول كل هذا الدمار؛ فخرج المشير أو حتى أحد القادة ليُعلن لنا الجدول الزمني ويتبرأ من وثيقة السلمي؟
لماذا نحن دائما متأخرون بخطوة؛ نتخذ الخطوات بعد أن تحدث مزيد من الأزمات التي ترفع من سقف مطالب الثوار، وعندها يكون السقف الجديد متأخرا، ويكون سقف المطالب قد ارتفع أكثر وهكذا، لا تتلاقى الإرادتان أبدا، ولو فقط نسي النظام الحالي تباطؤ وتكبر النظام السابق على شعبه وأجابه عندما طلب، لم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه الآن، والذي لا يعلم مداه إلا الله وحده.
بل لنقل: ماذا لو كان منذ عشرة أشهر مضت على 25 يناير، تم تحقيق طلبات الثوار بالعمل على انتقال السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة بشكل سريع، وعاد الجيش إلى ثكناته محمولا فوق الأعناق، وبدأت البلاد في الاستقرار في صمت؛ هل كانت ستحدث كل هذه الأحداث؟
أخيرا نحن جميعا -جميع المصريين- نحب جيشنا بشدة، ولا يمكن أن نطالب بالاستغناء عنه، وأقصد الجيش العامل وليس المجلس العسكري الذي يمثل الحكم الآن؛ فله ما لرئيس الوزراء والوزراء من الانتقاد والطلب بعزله السياسي إذا لم نرَ منه ما يحقق لمصر ما تريد.
ولكن حان وقت عودة الجيش -معززا مكرما- إلى ثكناته لمصلحتنا ومصلحته؛ لكي يبقى حبه في قلوبنا لا تشوبه شائبة.. وليترك أزمات وفساد وألاعيب السياسية لأهل السياسية؛ فهو يقوم بدور أهم كثيرا وأرقى كثيرا من ذلك.
ونتمنى من القادة أن يرحموا مصر والجيش والشعب.. وأن يتذكروا أن مصر قامت بثورة كي يعيش أبناؤها في حرية ورخاء، لا أن يموتوا مُدرجين في دمائهم في شوارع التحرير مرة أخرى لينالوا ما يستحقون من حرية، ولكي تفرح مصر وتهلل وهي تنتخب أول انتخابات نزهية لا أن تنتحب على أبنائها المقتولين.