لن ننتظرك بعد اليوم، لن نجد مقالاتك الرائعة على صفحات الأهرام والشرق الأوسط، خسارتنا هذه المرة أكبر من أن تُحتمل، الفارس الذي ينير لنا الطريق قد ترجّل، والمعلم الذي يعطينا الدرس كل صباح قرر الذهاب بلا عودة. نحبك.. نحب كلماتك الرشيقة وروحك الرائعة التي تظهر من بين عباراتك، نحب ما تخطه بقلمك من جُمَل ساحرة، نقرؤك فنرى روحك الطاهرة وهي تُعبّر عن نفسها، ونرى حكمة أجيال وأجيال تتدفق من بين السطور؛ فتروي ظمأنا الذي لا ينتهي للعلم والمعرفة. في قريتي الصغيرة كنت أجلس في الليل البهيم أقلب في صفحات كتبك، ولست وحدي بل ملايين الشباب في العالم العربي كانت كتاباتك هي سلواهم، ونافذتهم نحو العالم، آه يا أجمل من كتب، وأرق من حمل القلم، وأكثر كُتّاب العرب معرفة ودأبًا، هل حقًّا يا أنيس لن ننتظرك بعد اليوم؟ أنيس منصور ليس مجرد كاتب نقرأ له؛ بل هو صديقنا المقرب، نعرف عنه ما لا نعرفه عن أهلنا وأقاربنا، ونشعر بحميمية بيننا وبينه تتجاوز حميمية الدم. لا يمكنني أن أنسى كتابه "ساعات بلا عقارب" ولا مقولته الخالدة "في مهب عواصف الزمن: أقمت لنفسي كوخًا من الورق المطبوع".. إن مقدمة هذا الكتاب تحكي عن شغف صاحبنا بالقراءة، وعن الساعات التي تمر ولا يشعر بها وهو يقلب صفحات الكتب. إن أنيس منصور أحد العِظام الذين فتحوا مداركنا للحياة، وأروع مَن كتب سيرة ذاتية في تاريخ الأدب العربي كله؛ فلن تجد كتابًا منفصلًا يتحدث عن سيرة هذا العظيم؛ ولكنك ستجد حياته متناثرة في كل كتبه، وستظلّ متعاطفًا معه دائمًا وأنت تراه يتنقل من مكان لمكان، وحيدًا شريدًا بلا أصدقاء، وتتذكر معه المثل الشهير: "الحجر الدائر لا ينبت حوله العُشب"، وتتعاطف جدًّا معه، وتتمنى أن تكون صديقه لتخفف عنه وطأة الوحدة. عندما يحدّثك أنيس منصور عن أمّه، تشعر بحب جارف تجاهها، وتسعد بنجاح الطالب أنيس من أجل تلك الأم العظيمة، وتجد نفسك حائرًا معه في بحثه الطويل المجهد عن إجابات الأسئلة التي أرّقته، وستجد نفسك تصحبه في جلساته مع العقاد، وتزداد إعجابًا بذلك الشاب العبقري الذي حاز رضا أعظم أستاذين في تاريخ الأدب العربي. أنيس منصور الذي صَحِبنا في رحلته للحج في كتاب "طلع البدر علينا"؛ فجعل أعيننا تفيض من الدمع اشتياقًا لتلك البقعة الطاهرة، وحمَلنا معه للقاء "كلوديا كاردينالي"؛ فأخذتنا الرهبة مما تمتلكه تلك المرأة من سحر وأنوثة طاغية. أنيس منصور الذي أخذنا معه للقاء "الديلاي لاما"؛ ففرحنا بالإنجاز التاريخي للصحفي الذي نشجعه، كما قلقنا من أجله حينما غضب منه عبد الناصر، وفرحنا لعلاقته المتوازنة مع أنور السادات؛ فلأول مرة نرى كاتبًا بهذه الشجاعة في حواره مع الحاكم، ولأول مرة نرى علاقة تمتلئ بالندّية في وسط الكتّاب الذين يسبّحون بحمد الحاكم ليل نهار. لقد شاهدنا مع أنيس منصور فيلم "ريثا هيوارث" وشغفنا بها وعشقناها، وتابعنا مشاهدته له مرات ومرات، وكنا نتفاعل معه وكأننا نشاهده للمرة الأولى.. وأخذنا أنيس منصور إلى إحدى الحانات ورأينا معه راقصة تتلوى، وأيقظ مشاعرنا تجاهها، وتحدث عن نفسيتها وعما تعانيه من آلام؛ فحملْنا ذلك التعاطف حتى اليوم، وكلما رأينا غانية انشغلنا بحزنها وجراحها عن مفاتنها.. وشعرنا بحزنه على الحصان الذي انكسرت أقدامه ولم يشعر أحد بآلامه، إلا الأديب الذي كاد أن يصبح شاعرًا. تعاطفنا مع رحلاته صغيرًا بحثًا عن الغناء والطرب وصداقته للغجر، وتألمنا حينما ضربته أمه عقابًا له، وسمعنا صوت والده وهو يردد آيات القرآن قبل صلاة الفجر، ويدعو بأدعية تفيض تضرّعًا وخشية. أنيس منصور عدو المرأة الذي زعموه، هو أرقّ مَن كتب عن المرأة، وأكثر من عبّر عن مشاعرها برقة وعذوبة. أنيس منصور الشاب الذي كان يبلغ من العمر 86 عامًا، وظل يفيض بالحيوية كشاب في العشرينيات من العمر. أنيس منصور الرمز والتاريخ ذو الحضور المتوهّج. إن لم تصدقني فشاهده حينما يتحدث في برامج التليفزيون، أو شاهد مثلًا حواره مع صفاء أبو السعود في برنامج "ساعة صفا".. حضور ذهن، وغزارة أفكار، ورشاقة أسلوب، وخفة روح، وبديهة متوقدة. لا يتفوق على أنيس منصور الراوي؛ إلا أنيس منصور الكاتب، ولا يفوقهما فكرًا إلا أنيس منصور الفيلسوف. نحبه ونحترمه وندعو له بطول العمر، ننتظر كتبه التي لا يبخل بها علينا؛ فالرجل لا تجفّ قريحته ولا ينضب معينه. كنا ننتظره صباح كل يوم لنستفيد منه، نستمتع بكتاباته، وننبهر ونفكر ونندهش من أين يأتي هذا النبع المتفجر من الأفكار، ونجد أنفسنا نجيب بأنها موهبة إلهية منحها الله سبحانه وتعالى لعبده أنيس منصور. وكان الله عالمًا أن ذلك الخجول الانطوائي يستحقها، وكان يعلم أنه سيحافظ عليها، وسينميها بالقراءات التي لا تنتهي، وبالعمل الجاد الدؤوب. أنيس منصور لا تصدقنا إذا قلنا إننا لن ننتظرك بعد اليوم.. أستاذنا الحبيب لقد تركت لنا كنزًا من المعرفة المتناثرة في صفحات كتبك الكثيرة، على هذه الصفحات سنظل نلتقي بك كل يوم.