آعده: كريم رمضان القوات المسلحة المصرية استطاعت في الأيام الأولى للحرب -وتحديدًا من 6 أكتوبر وحتى 14 أكتوبر- تحقيق إنجاز عسكري تاريخي؛ بعبور مانع مائي صعب اجتيازه نظريًّا، والتغلب على تحصينات العدو بطول القناة، وتدفق مئات الدبابات ومضادات الطائرات إلى الضفة الشرقية للقناة، وتمّ إجهاض الهجمات المضادة الرئيسية بخسائر فادحة للعدو.. ولكن ماذا حدث فيما بعد؟ كيف وقعت الثغرة؟ الإجابة يرويها الفريق سعد الدين الشاذلي -رئيس أركان حرب القوات المسلحة وقت العبور- في مذكراته عن حرب أكتوبر. كان الشاذلي رجلا ميدانيًّا بمعنى الكلمة، ونعني بذلك أنه كان يضع كل الاحتمالات المتعلقة بالمعركة في اعتباره، ويضع لها حلولًا مسبقة، وكان مِن بين هذه الاحتمالات التي وضعها الشاذلي في اعتباره احتمال حدوث ثغرة الديفرسوار؛ هل يمكن أن تتخيل ذلك؟ نعم لقد توقع الشاذلي أن تكون منطقة الديفرسوار -ومنطقتين أخريين- نقطة ضعف في حزام الجيوش المصرية التي تحيط بالضفة الشرقية لقناة السويس. وبسبب ما سلف، قام الشاذلي خلال الإعداد لخطة المعركة بوضع سيناريوهات مختلفة لضرب هذه الاختراقات إذا ما حدثت؛ من خلال قوات مخصصة لهذه المهمة فقط، بعد أن تلقّت التدريب الكافي لتنفيذ هذه المهمات. وبالتالي كان يربض في الخطوط الخلفية للمعركة 330 دبابة غرب القناة بعمق حوالي 20 كم ضمن فرقتين مدرعتين، على أهبة الاستعداد لتلقي اتصال لاسلكي يُعلمها بحدوث الاختراق المنتظر؛ حتى تتحرك على الفور.. وكان بقاء هاتين الفرقتين في موقعهما كفيلًا بسحق أي اختراق يقوم به العدو على طول الجبهة. إذن ماذا حدث، ما دام أن الجيش لم يكن في غفلة عن هذه الثغرة؟ لماذا لم نتغلب عليها؟ لماذا لم نتصدّ لها بالشكل المناسب؟ مع الأسف أصدر الرئيس السادات قرارًا فجر يوم 13 أكتوبر بتطوير الهجوم شرق قناة السويس، ونعني ببساطة أن الرئيس السادات رفض أن يتوقف تقدّم القوات المسلحة عند حدود ال30 كم التي حققتها بعد العبور، وأمر بأن تتقدّم القوات إلى الأمام عند منطقة المضائق؛ وهنا وقع الخلاف بين السادات والشاذلي.
وضع القوات المسلحة على الضفتين الشرقية والغربية بعد وقوع الثغرة أسباب الخلاف بين السادات والشاذلي حول الثغرة إن الفريق الشاذلي كان يعتمد في خطة العبور التي وضعها -"المآذن العالية" أو "بدر"- على أن يعبر قناة السويس إلى الضفة الشرقية، ويتقدّم من 10- 15 كم، ثمّ يتوقف عند هذا الخط، وهذا لسببين؛ الأول: لأن سلاح الدفاع الجوي المصري لا يمكنه أن يكفُل تأمينًا لقوات المشاة والمدرعات لأبعد من ذلك؛ أي أنهم بعد هذه المسافة سوف يكونون عُرضة لضربات الطيران الإسرائيلي الذي لم تطله مضادات الطائرات المصرية. أما السبب الثاني الذي جعل الشاذلي يرفض فكرة التقدّم أكثر من ذلك شرق القناة: فهو نتاج دراسته للجيش الإسرائيلي، الذي يعتمد على تعبئة معظم أفراد الشعب الإسرائيلي في حالة الحرب، وبالتالي لو استطاع الجيش المصري أن يحافظ على مواقعه شرق القناة فسوف يُجهد إسرائيل ككل؛ لأنها لا تتحمل أن تضع الدولة كلها في حالة تعبئة مستمرة، وبالتالي سوف تأتي إلى مصر -غير راغبة- لعقد اتفاق صُلح نستعيد بموجبه باقي الأراضي المصرية. وبرغم معارضة الشاذلي لقرار السادات؛ فإنه في النهاية رجل عسكري يجب عليه إطاعة الأوامر، وتمّ تنفيذ الهجوم الذي وصفه اللواء عبد المنعم واصل -قائد الجيش الثاني- بالهجوم الانتحاري، وفشلت الفرقتين في إحراز أي تقدّم، وحاصرتها قوات العدو، وألحقت بصفوفها خسائر كبيرة. ومع فشل تطوير الهجوم، طلب الشاذلي إعادة الفرقتين من شرق القناة إلى مواقعهما الأولى غرب القناة ما دام أن تطوير الهجوم قد فشل، وحتى تعود للقيام بمهمتها الأولى وهي تأمين الثغرة (المساحة الخالية بين الجيشين الثاني والثالث).. لكن وزير الحربية رفض؛ بحجة أن سحب القوات قد يؤثر على الروح المعنوية للجنود، وأن العدو قد يُفسّره على أنه علامة ضعف فيزيد من ضغطه على القوات ويتحول الانسحاب إلى ذعر. "لقد كان أحمد إسماعيل منزعجًا، وكان يخشى وقوع الهزيمة، ويريد أن يؤمّن نفسه ضد هذا الاحتمال.. لقد طُرد من قِبل الرئيس عبد الناصر مرتين: المرة الأولى: عقب حرب 1967؛ حيث كان يشغل منصب رئيس أركان جبهة سيناء، والمرة الثانية: في سبتمبر 1969؛ حيث كان يشغل منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وقد أثرت هاتان الحادثتان على نفسيته تأثيرًا كثبرًا، لقد أصبح رجلًا يخشى المسئولية، ويفضل أن يتلقى الأوامر، ويخشى أن يُصدرها، يفكر في احتمالات الهزيمة قبل أن يفكر في احتمالات النصر." "كان إسماعيل رجلًا مريضًا، وكان السادات يعلم ذلك؛ فقد مات إسماعيل في ديسمبر 1974 في لندن متأثرًا بمرض السرطان، وقال التقرير الطبي إن إصابته بهذا المرض لا بد أنها كانت واضحة وظاهرة قبل ثلاث سنوات على الأقل؛ فهل استعان به السادات لأنه ينفّذ الأوامر دون أن يعترض؛ أم لأنه يمكن أن يتحمل المسئولية كاملة في حال الهزيمة ثمّ يموت صامتًا في نهاية الأمر؟" ومع الأسف الشديد؛ فإنه في يوم 15 أكتوبر قامت طائرة استطلاع أمريكية برحلة فوق الجبهة اكتشفت فيها مساحة الفراغ غير المؤمّنة بين الجيشين الثاني والثالث، والتي يمكن من خلالها تدفق القوات الإسرائيلية إلى غرب القناة، الخالي من الدبابات تقريبًا والتي بدأ فيها الهجوم المصري. وعلى الرغم من رصد هذه الطائرة؛ فإن القيادة السياسية المصرية لم تتحرك، وأصرّت على الإبقاء على الفرقتين المدرعتين شرق القناة، واستغلّ العدو الفرصة أفضل استغلال، ونفّذ هجومه من الثغرة في الليلة ذاتها. وبعد ظهر اليوم التالي عُقد مؤتمر بالقيادة العامة، اتفق خلاله الشاذلي ووزير الحربية على توجيه ضربة قوية للعدو في منطقة الهجوم صباح يوم 17 أكتوبر؛ لكنهما اختلفا حول طريقة توجيه الضربة؛ فبينما كان الشاذلي يرى ضرورة سحب جزء من القوات في الشرق إلى الغرب، كان الوزير لا يزال ضد فكرة سحب أي قوات. وبعد ساعات، وصل الرئيس لمقر القيادة؛ فعرض عليه الشاذلي اقتراحه؛ لكن السادات ثار في وجهه ثورة عارمة، وهدّده بالمحاكمة إذا أثار مسألة سحب القوات من الشرق إلى الغرب مجددًا.. لقد كانت ذكرى الانسحاب من الجبهة خلال النكسة تسيطر عليه، وربما ساعده في تصميمه ذاك أن القوات التي تدفقت إلى الغرب في حينها لم تكن بأعداد كبيرة. المشكلة الأساسية من وجهة نظر الفريق الشاذلي أن الأخير كان يهدف في اقتراحه بسحب قوات -4 ألوية مدرعة تحديدًا- من الشرق إلى الغرب على سبيل المناورة إلى تصفية الثغرة، ثمّ العودة إلى مواقعها كلها أو جزء منها؛ فضلا عن أن سحب هذه القوات من الشرق لن يؤثر على موقف قواتنا هناك؛ حيث يتبقى 5 فرق مشاة؛ بينما السادات كان يرى في ذلك انسحابًا وتراجعًا. وهكذا حُسم الأمر وصدرت التعليمات طبقًا لقرار الرئيس والوزير بخطة بديلة، تقضي بأن تهاجم فرقة مدرعة من تلك المتواجدة في الشرق الثغرة؛ ولكن القوات الإسرائيلية استطاعت أن تحاصرها من 3 جهات، ودُمّر اللواء بالكامل، وفشلت الخطة فشلًا ذريعًا؛ وكانت الخسائر مروعة في القوات المصرية. وعندما فهِم رئيس الجمهورية ووزير الحربية أن الشاذلي كان على حق؛ اتخذا أخيرًا قرارًا بسحب فرقة مدرعة مساء 18 أكتوبر؛ حيث كان الوقت قد فات.