كتب: حازم الأمين مرة جديدة يضرب باراك أوباما في لحظة عربية شديدة الحساسية؛ فاصطياد أنور العولقي حدث أمريكي من دون شك، لكنه أيضا حدث عربي يقع في صلب المتغيّرات التي يشهدها الوعي الشقي الذي كان أنور العولقي يتولّى وصله بالعالم عبر مجلة "انسباير"، وعَبْر المنابر الإلكترونية المتغيّرة والمتكيّفة مع أشكال الرقابة المختلفة. هذا الوعي الشقي وقبل أن يُصاب بمقتل أسامة بن لادن، وقبله أبو يزيد المصري وبعده اليوم أنور العولقي، أُصيب بالدرجة الأولى بالثورات العربية. نعم هذه حقيقة لم يعد ممكنا عدم القول بها، وفي هذا السياق يأتي اليوم مقتل أنور العولقي كجزء من أفول مشهد القاعدة، أو من أفول مرحلة كانت القاعدة علاماتها الأبرز. اليوم تسعى بيئة القاعدة إلى اللحاق بالربيع العربي عبر سعيها لتظهير صورة مختلفة لها، صورة لا مكان فيها لأيقونات الجهاد؛ بدءاً بابن لادن ووصولاً إلى العولقي؛ فتجري نقاشات بين مشايخ الجهاد عن ضرورة الانتقال إلى الساحات بدل الاختباء من الأنظمة الجائرة، والتحوّل من العمل الأمني النخبوي إلى العمل المسجدي وإلى الانخراط في التنافس في مشهد سياسي مكشوف ومعلن. هنا ضرب باراك أوباما عبر قتله العولقي وقبله بن لادن، في هذه اللحظة، وكأنه يقول لهؤلاء: "هيا سأساعدكم في المهمة.. سأخرج رموز الحقبة السابقة من المشهد". طبعا لم تكن هذه نيته عندما أقدم على قتلهم، فقد كان ذلك مجرد فرصة أمنية استثمِرت بشكل ناجح، ولكن ماذا لو كان القتل ثمرة تخلٍ قبلي عن العولقي؟ تخل في لحظة شعور القبائل اليمنية التي تحميه بأن الرجل لم يعد أكثر من عبء، وأن لا مكان له فيما يجري في اليمن اليوم. فإذا صح ذلك، وهو غير مستبعد لمن يعرف اليمن ولمن يعرف القبائل، فإن دلالة مقتله في مرحلة الربيع العربي ستحمل معاني مضاعفة. مثل أنور العولقي أيقونة الجيل الثالث من أجيال القاعدة، إنه الأمريكي الذي يجيد الإنجليزية ويجيد الدعوة عبر الشبكة الإلكترونية، وهو اليمني الذي لجأ إلى قبيلته بعد أن كُشف في الولاياتالمتحدة.. لم تكن للرجل قيمة ميدانية على ذلك النحو الذي كان لغيره من قادة التنظيم، فتمثّلت قيمته قبل كل شيء في قدرته على التأثير في مسلمي الغرب بالدرجة الأولى، من أمثال نضال حسن الذي نفّذ عملية تكساس وفي عمر فاروق الذي كان ينوي تفجير طائرة مدنية أمريكية. وحملت عودة العولقي إلى عشيرته في اليمن التي لم يولد فيها ولا يعرف لغتها دلالة كبرى، فهو خاطب في هذه العودة مشاعر أقرانه من مسلمي أوروبا؛ فالعشيرة هي الملاذ الأخير للهائمين على وجوههم، ولا أمان لهم من دونها، وعليهم أن يهيئوا أنفسهم في المكان الذي يعيشون فيه اليوم، أي الغرب، لاحتمالات العودة. هذه المجتمعات بحسب مجلة "انسباير" التي كان يحررها العولقي، لا تصلح إلا لقتالها ثم هجرتها. واليوم قتل العولقي في قبيلته وبين أهل افترضهم أهله، هو الأمريكي المولد واللغة والثقافة. وبينما كان هو مطارد في اليمن، كان والده الأمريكي من أصل يمني يرفع دعوى في المحاكم الأمريكية على الحكومة هناك بسبب إصدارها أمراً بقتل ابنه، معتبراً أن في ذلك حرماناً له من محاكمة عادلة. المعادلة هنا على هذا النحو: الابن يُقتل في مضارب العشيرة وبتواطؤٍ ما من قبل أفراد فيها، والأب يستعين على الحكومة بالقانون لتجنيب ابنه القتل. العشيرة خذلت القاعدة فيما القانون الأمريكي كان من الممكن أن يحميه. وهذه المعادلة بدأت تلوح في أذهان كثيرين من الهائمين حاملي أفكار التكفير على مختلف مستوياتهم. فقد قال نبيل رحيم، وهو أمير لبناني سابق لمجموعة جهادية ألقت السلطات اللبنانية القبض عليه بعد سنوات من التخفي، ثم أفرجت عنه بعد التثبت من أنه لم يقُم بأعمال داخل الأراضي اللبنانية، إنما كانت مهماته خارجية، قال: "عملية إلقاء القبض عليّ جاءت لمصلحتي، فقد أنقذتني من قسوة الاختباء الدائم". ومن يراقب بيئة السلفيين الجهاديين يعرف أن ثمة تحولا بدأت تشهده أفكارهم وقناعاتهم. أفكار لا تنسجم إطلاقا مع صورة السلفي التي رسمتها القاعدة. طبعاً يبقى التحول غير كامل وغير ناجز في ظل عدم قيام أحد منهم بمراجعة فعلية لحقبة الجهاد الدموية، لكنها مؤشر من دون شك على شعور بفشل الجهاد وبعقمه، ومؤشر أيضا إلى رغبة حجز مكان في المجتمعات بعد حقبة هجرتها وقتالها. أما الزهد بالسلطة وبالحياة الذي كان يدّعيه شيوخ السلفية الجهادية فقد تلاشى أمام إغراء فرصة بدأت تلوح؛ فالانتخابات لم تعد حراما، والمجتمع لم يعد كافرا، ودماء غير المسلمين لم تعد مباحة ما دام أنها تشكّل احتمال أصوات في الانتخابات. والترحيب بالعائدين عن ضلالة الجهاد يجب أن يبقى مشوباً بالحذر والشكوك، ذلك أن هذه العودة كشفت عن ضائقة السلطة بالنسبة لهؤلاء، وعن قدرة على المراوغة وسعي إلى التنصل من تبعات سنوات من الشقاء. فماذا عن آلاف الضحايا، وماذا عن الشقاق والمذهبية، وماذا عن الصورة القاتمة التي تسبب بها هؤلاء لمئات الملايين من المسلمين؟ كل هذه الأسئلة ليست جزءاً من برنامج العائدين عن ضلالاتهم. الأكيد أن القاعدة كانت جزءاً من النظام العربي القديم، وأن تداعي هذا النظام سيصيبها أيضاً، وأن مقتل بن لادن والمصري والعولقي، من مؤشرات التداعي، لكن المجتمعات التي تولت التغيير ستكون أمامها أيضا مهمة مساءلة هؤلاء. فلن يفيدنا كثيرا إطاحة أنظمة الفساد والاستبداد، وإفساح المجال لمن كان جزءاً من منظومة شقائنا. نُشِر بجريدة الحياة بتاريخ: 2/ 10/ 2011