كتب: السنوسي محمد السنوسي في أقل من عام واحد (ديسمبر 2010 حتى أغسطس 2011) أطاح "ربيع الثورات العربية" بثلاثة أنظمة (تونس، ومصر، وليبيا) من أعتى الأنظمة العربية؛ بينما توجد دول أخرى (اليمن، وسوريا، والبحرين) لا يزال أمامها شوط كبير. هذا بالإضافة إلى دول عربية أخرى مرشّحة وبقوة لأن تشهد تغييرات جذرية قد تقترب من ثورة كاملة؛ مثل: المغرب، والأردن، والجزائر. وحيال هذا الفوران الشعبي الذي يأخذ لأول مرة في تاريخ العالم العربي بزمام مبادرة التغيير، وإزاحة أنظمة مستبدة احتكرت لعقود سدة الحكم.. كان موقف الجامعة العربية مختلفًا من ثورة لأخرى، وتراوح بين الموقف السلبي، وتأييد مطالب الجماهير، وتجميد عضوية إحدى الدول؛ كما حصل مع النظام الليبي قبل إسقاطه؛ الأمر الذي يدل على انعدام الرؤية الاستراتيجية للجامعة، وعدم وجود معيار واحد لديها تتعامل به مع الدول العربية؛ خاصة إذا تعلق الأمر بعلاقة الأنظمة العربية والشعوب. وكان د. نبيل العربي -الأمين العام للجامعة العربية- قد أعلن خلال الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة 13/ 9/ 2011 أنه سيبدأ حوارًا مع شخصيات عربية مستقلة؛ من أجل تطوير الجامعة وطريقة أدائها، وجعْلِها تواكب التطورات الدولية، وتحقق المشاركة الشعبية في عملها. فإلى أي مدى ستتأثر الجامعة العربية برياح التغيير التي تهبّ على الدول العربية؟ وهل ستنجح الجامعة في تطوير أدائها لتكون معبِّرة عن آمال الشعوب العربية وتطلعاتها؟! أم أن الجامعة -التي اعتادت أن تكون صوت القادة لا الشعوب- هي التي ستطبع الثورات العربية بطابعها "الجامد" و"البطيء"؛ خاصة أن كثيرًا من الدول العربية لا تزال تبدو بعيدة عن رياح التغيير؟! مواقف دون استراتيجية بداية، من المهم أن نتذكر أنه مع تسارع وتيرة الأحداث في تونس بعد أن أحرق محمد البوعزيزي نفسه في 17 ديسمبر 2010م، أعلنت الجامعة العربية أن ما يحدث هناك هو شأن داخلي، وإن كانت قد أعربت عن أملها في أن تتجاوز تونس الأحداث بسلام. ولم يخرج موقف الجامعة العربية عن هذا الإطار إزاء الثورة المصرية؛ بل كان الموقف أكثر حرجًا؛ لا سيما وأن الأمين العام للجامعة (عمرو موسى) -وقت ذاك- مصري، وقد ثار جدل "هامس" حول إمكانية أن يلعب دورًا فيما بعد نظام مبارك؛ خاصة أن موسى كان قد أكّد في الأيام الأخيرة من فترة أمانته للجامعة أنه لن يقبل التجديد لفترة أخرى. فموقف الجامعة من الثورتين التونسية والمصرية هو أقرب إلى "الحياد السلبي"، الذي يأخذ في اعتباره العلاقة مع الأنظمة أكثر من الشعوب، وإن كانت الجامعة تحاول أن تغلِّف هذا "الحياد السلبي" بشيء من الدبلوماسية حين تزعم أن ما يجري هنا أو هناك هو "شأن داخلي". أما الخطوة الإيجابية البارزة -إن لم تكن الوحيدة- التي اتخذتها الجامعة في تعاطيها مع الثورات العربية؛ فتمثّلت في موقفها من الثورة الليبية التي اندلعت في 17 فبراير، وبدأت سلمية شأن بقية الثورات؛ لكن نظام القذافي الطاغية واجه مطالب الجماهير السلمية بالرصاص والمدافع الثقيلة والصواريخ؛ ففي خطوة غير مسبوقة، قرّرت الجامعة العربية تعليق عضوية ليبيا لحين توقف القتال بين القذافي والثوار، ثمّ طلبت من مجلس الأمن اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المدنيين، وبالتالي أصدر مجلس الأمن قراره بفرض منطقة حظر جوي فوق الأراضي الليبية، وقدّم الناتو مساعدات عسكرية للثوار أسهمت في إسقاط القذافي. وأما موقف الجامعة العربية من الأوضاع في البحرين أو اليمن؛ فقد كان موقفًا ملتبسًا؛ لدرجة جعلت البعض يتهم الجامعة بالتواطؤ مع دول عربية بعينها لمصالحها الشخصية، وبالانحياز لها ضد مصالح الشعوب العربية. وفي سوريا -التي اتسم ردّ فعل النظام فيها على مطالبات الجماهير بوحشية وعنف مبالغ فيه- حرصت الجامعة العربية على عدم توجيه نقد علني للنظام السوري، وإن كانت دعته للإسراع في خطوات الإصلاح؛ ففي شهر يوليو الماضي زار د. نبيل العربي سوريا واجتمع بالرئيس السوري بشار الأسد؛ لكن العربي رفض الإدلاء بتفاصيل الاجتماع، وقال لدى وصوله للقاهرة: "قابلت الرئيس بشار الأسد.. وتحدثت معه عن ضرورة الإصلاح، وحصلت منه على وعد أن يعمل على ذلك.. وليس كل ما يقال في الغرف المغلقة يمكن مناقشته مع وسائل الإعلام". وكان بإمكان الجامعة العربية أن تمارس ضغوطًا أكثر قوة وفعالية على النظام السوري، من قبيل التلويح بتجميد عضوية سوريا في الجامعة، وسحب السفراء العرب من سوريا، وليس انتهاء بقطع العلاقات الاقتصادية معها. ولا يخفى على أحد أن إسراع الجامعة في الضغط الجادّ على النظام السوري لوقف العنف، من شأنه أن يقطع الطريق أمام محاولات بعض قوى المعارضة السورية الرامية ل"تدويل" القضية، كما حصل مع النظام الليبي، ويمنع مجلس الأمن من الدخول على الخط، وهي الخطوة التي لم يتبلور موقف دولي بعد بشأنها؛ خاصة مع معارضة روسيا والصين فرض عقوبات دولية على سوريا. جامعة للأنظمة أم الشعوب؟! من خلال هذا العرض الموجز لمواقف الجامعة العربية تجاه الثورات العربية، نلاحظ أن هذه المواقف قد انحازت -في أغلبها- إلى رؤية الأنظمة العربية وتفسيرها لما يحدث بداخلها من فوران شعبي ومطالبات بالإصلاح. وقد يكون موقف الجامعة العربية هذا مُتّسِقًا مع شكل ومضمون الجامعة العربية؛ إذ إنها كما يرى البعض أقرب إلى "هيئة بيروقراطية" وتجمّع إداري للأنظمة، ولا تقدر الجامعة أن تأخذ موقفًا سياسيًّا مستقلًّا عن محصلة رأي الدول العربية، أو على الأقل رأي الدول ذات الثقل في الشأن العربي. فالجامعة هي "محصلة قوى"؛ فإذا كانت الدول العربية دولًا ديمقراطية وتتمتع بحرية داخلها، وباستقلال أمام الضغوط الخارجية؛ فإن محصلة قرارها -الذي تعبّر عنه الجامعة- سيأتي قويًّا ومواكبًا للتحديات الداخلية والخارجية على السواء. أما إذا كانت الدول العربية -في معظمها- دولًا هشّة وتابعة وتعتمد على الذراع الأمنية في تثبيت سيطرتها ونفوذها في الداخل؛ فإنه من غير المعقول أن نتصور أن تكون الجامعة العربية على العكس من ذلك؛ لتصبح فاعلة ومستقلة في رؤيتها وأطروحتها. لكن الأمر الأشد خطورة، هو أن تنجح بعض الدول العربية -التي تبدو بعيدة عن الضغط الشعبي أو غير راغبة في الاستجابة له- في احتواء الثورات العربية والضغط على الدول التي تتجه إلى الحرية والاستقلال؛ ليبقى الوضع على ما هو عليه! ومن هنا؛ فإن الحديث عن "تطوير الجامعة العربية" في ظل التركيبة العربية القائمة الآن، أعتقد أنه لن يفضي إلى أمر ملموس يمكن الاعتماد عليه في تطوير الأداء العربي المشترك. والحل هو أن تُوَاصل الثورات العربية -بالضغط الشعبي السلمي- نجاحاتها، وتكون أكثر وعيًا وإدراكًا للواقع الراهن، ومن ثمّ ستنشأ أنظمة عربية أكثر ديمقراطية، وأكثر استقلالًا وأكثر حرصًا على مصالح شعوبها واحترام إرادتها. وساعتها ستكون الجامعة العربية "محصلة دول قوية" لا دول ضعيفة وأنظمة مستبدة.. و"صوتًا حرًّا" للشعوب والأنظمة معًا!.