كتب: السنوسي محمد السنوسي الحفاوة الكبيرة التي تمّ بها استقبال رجب طيب أردوجان -رئيس الوزراء التركي- في مصر خاصة على المستوى الشعبي؛ أراها طبيعية وتُعبّر عن عمق الإعجاب بالنموذج التركي في ظلّ تجربة حزب "العدالة والتنمية" الذي استطاع أن يفوز بالانتخابات للمرة الثالثة على التوالي، وأن يُواصل إنجازاته في الداخل والخارج. ولا شك أن النصيب الذي يناله أردوجان شخصيا من هذا الإعجاب هو نصيب كبير.. ولا عجب في ذلك؛ فقد اجتمعت في شخصيته صفات وقدرات لم نألفها في الزعامات التي تصدَّرت المشهد العربي في العقود الأخيرة، والتي تبيّن بعد ربيع الثورات العربية أنها كانت زعامات من ورق لم تضع يوما مصلحة بلادها في ذهنها وهي تتخذ أي قرار حاسم، بل كانت تضع أمامها دائما مصالحها هي ومصالح الطبقات الرأسمالية التي تحالفت معها في تواطؤ مريب ضد الوطن والمواطن. لكن مع الأسف قد يستسهل البعض -وهو يحاول قراءة النموذج التركي- فيتصوّر أن كلمة السر في نجاح هذا النموذج ترجع إلى شخصية وكاريزما أردوجان وقيادات حزبه الذين استطاعوا كسب ثقة الجماهير في سابقة من نوعها منذ قيام العلمانية في تركيا على يد كمال أتاتورك سنة 1924. وهذا التفكير يعتبر امتدادا للعقلية "الطفولية" التي تنتظر البطل المخلص (السوبر مان) الذي يمتلك قدرات خارقة أشبه بعفريت مصباح علاء الدين.. ولا تحاول أن تبتعد عن الخيال الساذج ولغة العواطف، وتقترب من الموضوعية والتفكير المركَّب. كلمة السر في التجربة التركية المعاصرة، تتمثّل برأيي في مناخ الحرية.. • الحرية التي استطاعت أن تفسح للمعارضة (وهي الإسلامية هنا) مساحة مناسبة لتكسب كل يوم مزيدا من الأنصار، ولتطور خطابها لتصنع منه أفكارا أكثر واقعية وعملية ومرونة وتدرجا. ف"العدالة والتنمية" ليس أول حزب من خلفية إسلامية، فعلى مدى 40 عاما تقريبا وبقيادة نجم الدين أربكان -الأب الروحي للحركات الإسلامية السياسية- كان هو ومن معه كلما أُغلق لهم حزب أنشأوا حزبا آخر، دون ملل أو يأس، وفي كل مرة يكسبون مزيدا من الأتباع والمؤيدين لفكرتهم حتى من خارج أعضاء الأحزاب الإسلامية، إلى أن انفصل أردوجان وعشرات من قيادات حزب الرفاه عن أربكان، وكوَّنوا حزب "العدالة والتنمية" سنة 2001 الذي استطاع أن يمد جسورا أقوى مع الجمهور التركي، ويقدم خطابا أكثر انفتاحا وبرجماتية. • الحرية هي التي وفّرت للشعب التركي مناخا اقتنع من خلاله أن مصلحته في الاقتراب أكثر من الديمقراطية والابتعاد عن قبضة العسكر الذين يزعمون أنهم أوصياء على مصلحة الشعب، بينما هم يريدون أن يبقوا مُمسكين بالمفتاح (مثل كهنة المعبد)؛ ليكونوا وحدهم المستفيدين من ثروات البلاد بزعم حماية العلمانية.. فحين اقتنع الشعب أن العلمانية ضد مصالحه، طلَّقها وفوَّض أردوجان في تقليل سلطات الجيش؛ لدرجة أن أربعة من جنرالات الجيش -منذ شهر تقريبا- قدّموا استقالتهم مرة واحدة وقبلها أردوجان، بينما كانوا في السابق هم من يُقيلون الحكومة ولا يستقيلون، ويأمرون ولا يأتمرون، ولا يُسألون عما يفعلون!! • الحرية هي التي سمحت لتركيا أن تُظهِر -ولو على استحياء- وجهَها ذا الأصول الإسلامية فيما يسمّى بنظرية "العمق الاستراتيجي" كما بيَّنها داوود أغلو، وأن تُيمِّم وجهها من جديد نحو الشرق، ولا ترمي بيضَها كله في السلة الأمريكية والأوروبية؛ عملاً بالمثل الروسي (لا تضع البيض كله في سلة واحدة).. فزادت قيمة التبادل التجاري مع الدول العربية أكثر من خمس مرات ليصل إلى 30 مليار دولار تقريبا بعد أن كان 5 مليارات. • الحرية هي المناخ المناسب والوضع الطبيعي الذي يستخلص من الناس أفضل ما فيهم من أفكار، وممارسات، وطاقات، وإبداعات، وعطاء بلا حدود. أما الاستبداد فهو الذي يخنق النفاس والأفكار، أو يجعل الأفكار تولد ميتة ومشوهة، وربما قاتِلة ومُدمِّرة. الاستبداد يقتل العقول في مهدها، وينثر بذور الكراهية والعداء بين طبقات الشعب.. ويجعل ثروة البلاد حكرا على رجال الأعمال والأجهزة الأمنية الذين يتحالفون معا في زواج كاثوليكي باطل. الاستبداد هو الذي يجعل الطبقة الحاكمة ترهن القرار الوطني والثروة الوطنية للخارج؛ لأن هذه الطبقة تشعر أنها غريبة عن باقي فئات المجتمع، بل وتخشى من الشعب، وتبحث عن حليف لها من الخارج تستمد من العون والمدد في مواجهة الطوفان الداخلي الثائر.. ولذلك فإن الاستبداد والاستعمار دائمًا قرينان، ووجهان لعملة واحدة. ولكن المستبدين -لغبائهم وقلة وعيهم بالتاريخ- لا يُدركون أنه إذا حانت ساعتهم فلا منقذ لهم من الجماهير الثائرة ولا شفيع، وأن محكمة العدالة والقصاص إن لم تُنصَب لهم في الدنيا فهي تنتظرهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد. • مرة أخرى.. الدرس التركي هو في ضرورة إيجاد مناخ الحرية الذي يتيح للأفكار أن تتلاقح وتتطور، وللطاقات الكامنة أن تظهر وتبدع.. وذلك أجدى من القعود في انتظار البطل المخلص!!