هو كاتب متميّز وأديب مختلف، عرف كيف يفرض نفسه من أول رواية له في الصيف السابع والستين كصاحب مشروع روائي واضح يتميز بجرأة ما يقدمه.. إنه الكاتب والأديب الكبير الذي يدخل بروايته الجديدة "في كل أسبوع يوم جمعة" عالماً جديداً على الرواية المصرية والعربية وهو العالم الافتراضي لدينا الشاتينج والمدونون على الإنترنت؛ ليكتشف أنه أصبح العالم الأكثر سيطرة علينا من الواقع، وعن هذا العالم يتحدث إبراهيم عبد المجيد.. فلنسمعه. لماذا اخترت كواليس عالم الشات والإنترنت لتدور حوله روايتك الجديدة "في كل أسبوع يوم جمعة"؟ لعدة أسباب؛ أهمها أني أريد أن أقترب أكثر من الشباب ومن عالمهم الخاص والذي أصبحت لغة الشاتينج والإنترنت هي اللغة الأولى والسمة المميزة له، بالإضافة إلى أن الإنترنت أصبحت عالمنا الافتراضي الآن الذي نعيش فيه حريتنا المفقودة في الواقع، فالإنترنت عالم سهل الدخول إليه ولا يتطلب أكثر من ضغطة واحدة على الماوس لتكون جزءا منه وأنا منذ سنوات وأنا أستخدم "النت" كمرجع لأي معلومة أريد الوصول إليها أو التأكد منها ومن هنا اخترت أن يكون هذا العالم هو محور روايتي الجديدة.
ولماذا جاءت مشاركات كل أبطال الرواية في شكل اعترافات؟ لأنهم جميعها مقهورون في الواقع ويبحثون عن أي متنفس يعيشون فيه كأشخاص لهم حقوق يأخذونها عندما يقومون بواجباتهم، وهذا طبعاً ما لا يحدث في الحقيقة خاصة في بلد مثل بلدنا هذه، وهناك نقطة أخرى مهمة وهي أن كل الأبطال كانوا يقولون على الموقع ما لا يستطيعون أن يعترفوا به لأحد في الحقيقة؛ خاصة أن كل أعضاء الجروب لا يعرفون بعضهم، والحقيقة أننا جميعا يأتي علينا وقت نشعر أننا نريد أن نتكلم فيه مع أي شخص لنبوح له بما يؤلمنا وتنطوي عليه صدورنا، وهناك نظرية نفسية تقول إن الإنسان يكون أكثر حرية عندما يعترف لشخص لا يعرفه؛ لأنه سيتحدث عن نفسه دون أن يضع في حساباته شكل الخلفية المسبقة التي يأخذها الآخر عنه.
وهل الإنسان يحتاج من وقت لآخر للاعتراف بما تنطوي عليه نفسه؟ بالتأكيد فالنفس البشرية عالم مليء بالأسرار والمشاكل والعقد، ونحن جميعا نحتاج من وقت لآخر إلى الاعتراف بهذه الأسرار أو بجزء منها؛ لأنه عندما تمتلئ النفس البشرية بالأسرار يصبح من الصعب الاحتفاظ بها، وبالتالي سينكشف كل ما تنطوي عليه، ومن هنا فطبيعي أننا عندما يفيض بنا الكيل ونشعر أننا لا نستطيع الاستمرار بهذا الشكل نبحث عمن نفضفض له حتى نخفف هذا العبء ونستريح معه.
هذه الأفكار هل لها علاقة بدراستك للفلسفة؟ مما لا شك فيه أن أي دراسة تؤثر في صاحبها حتى لو كان ذلك في منظومة تعليمية فاشلة مثل تلك الموجودة عندنا، ودراسة الفلسفة تحديدا من الدراسات التي تؤثر في أصحابها بقوة، وهي بالتأكيد لها تأثير واضح في هذه الرواية وفي كل رواياتي، ولكن عادة ما يؤثر في الإنسان أكثر هي العشر سنوات الأولى في حياته؛ لأن هذه السنوات هي التي تتكون فيها روحه ثم تؤثر في بقية حياته بعد ذلك، وهذا ما حدث معي بالضبط خاصة أنني نشأت في الإسكندرية تلك المدينة الساحرة لزوارها فما بالك بمن يعيش فيها، والأهم هو وجودي في حي "كرموز" هذا الحي الشعبي البسيط والذي يعمل معظم سكانه بالصيد، ويتنفّس هؤلاء الناس البسطاء من كل مشاكلهم وهمومهم بحكاية أساطير أساطيرهم التي كانوا يحكونها عن رحلاتهم في البحار، هذا ما جعل الإسكندرية تحتل الموقع الأكبر والأهم في معظم رواياتي؛ مثل: لا أحد ينام في الإسكندرية والصياد واليمام والمسافات وبيت الياسمين وغيرهم.
لذلك احتلت الإسكندرية دور البطولة في معظم رواياتك أكثر من الشخصيات؟ لا.. هذا ليس صحيحاً؛ لأن المكان من وجهة نظري لا وجود له بدون الإنسان، فكل واحد فيهم يؤثر ويتأثر بالآخر، فلو لم يكن الناس والبشر بالإسكندرية لظلت مدينة صامتة لا أثر لها، ولو لم تكون المدينة لما كان لهؤلاء الناس أسطورة وقصة وحكاية؛ لأن المكان له أثر على البشر وهو صانع صامت لأفكارهم وأحلامهم وآلامهم.
رواياتك تنطوي على قدر كبير من التنوّع، كيف استقيت ذلك التنوّع؟ من الناس ومن رغبتي الدائمة لأن أقدم شيئاً جديدا في رواياتي؛ فأنا لا أشعر أني أحقق ذاتي إلا عندما أبتدع أشكالا جديدة في الرواية شرط ألا تكون عبئا عليها، وهذا كله لا يتحقق إلا عندما أذوب بين البشر وأحلامهم ومشاكلهم. هذه الرغبة في ابتداع شيء جديد في رواياتك هي التي دفعت لابتكار شخصية "المنغولي" ليكون لها دور مهم في رواية "في كل أسبوع يوم جمعة"؟ هذا حقيقي، ولكن هناك سبب آخر وهو أنني ككاتب أعتبر نفسي شخصا بائسا أحيانا؛ لأن الأشياء والمواقف لا تمر عليّ مرور الكرام وتنتهي، بل هي تؤثر في نفسي وروحي وإحساسي حتى تخرج في شكل رواية أو جزء من رواية، وقد جاء تفكيري في هذه الشخصية من فيلم سينمائي بلجيكي كنت قد شاهدته في السبعينيات وكان بطله شابا منغوليا ذهب إليه أخوه في المستشفى وأراد أن يسرّي عنه فأخذه للتمشية في حديقة المستشفى وبعد أن بدآ في المشي سأله المنغولي: كم الساعة الآن؟ فأجابه بأنها الثالثة، فرفض المنغولي واعترض وصمم على أنها "زي دلوقتي إمبارح"، ولا أنكر أنني تأثرت بهذه الشخصية جدا، وظلت موجودة بعيدا في ذاكرتي ووجداني حتى جاءت الفرصة لكي تفرض نفسها عندما وجدت أن هناك ضرورة لتواجدها.
رغم أن العالم الذي تدور حوله الرواية وهو "الشاتينج" على النت يبدو عالما افتراضيا إلا أننا شعرنا أنه عالم حقيقي مطابق للواقع الذي نحياه؟ هو حقيقة عالم افتراضي لكنه لا يبتعد كثيرا عن الواقع، وإنما مرادف له، لذلك كان طبيعيا أن أستعرض فيه مشاكل وحكايات من الواقع؛ لأن هذه الحكايات هي التي تؤرق أصحابها والذين دخلوا أصلا للاشتراك في الجروب ليتحدثوا عنها، أي أنهم دخلوا أصلا ليعترفوا بمشاكلهم في الواقع، ومن هنا تحوّل العالم الافتراضي لعالم حقيقي، وهذا كان أمرا طبيعيا بالنسبة لي؛ لأني في النهاية أقدّم عملا فنيا أستعرض من ورائه قضية.
لا بد للعمل الفني من قضية يتحدث عنها.. توافق؟ نعم أوافق جدا؛ لأنه لا يوجد عمل فني بلا قضية، وإلا أصبح بلا معنى أو قيمة، ولكن المهم هنا هو الصياغة الفنية التي يقدّم بها الكاتب هذه القضية؛ لأن أي مشكلة أو قضية يتعرض لها المجتمع من الطبيعي أنها ستكون معروضة في الصحف والفضائيات وغيرها، لذلك عندما نتكلم عنها في رواية فلا بد أن نتكلم بلغة فنية ممتعة تجذب القارئ وتؤثر فيه وتفتح أمامه بابا جديدا لحلها أو إعادة النظر فيها.
لماذا اخترت يوم الجمعة تحديدا ليكون اليوم الوحيد الذي يدخل فيه أعضاء الجروب للاشتراك أو الشات؟ لقد فسّر كل بطل أو شخصية في الرواية هذا الموضوع على طريقته، ورغم أن العنوان يبدو عفويا إلا أنه مع التعمق في أحداث الرواية تكتشف أن يوم الجمعة يصبح هو اليوم الذي يحدد مصير وقدر الأبطال ويلاحقهم دائما بالفرح أو الألم لدرجة أنه يصبح يوم الحب والموت.
ماذا كنت تقصد بالضبط بشخصية "لا شيء"؟ ما كتب على "البروفيل" الخاص بها، فهذه الشخصية من أكثر الشخصيات التي تأثرت بها لدرجة أني بكيت وأنا أكتبها. هذا الرجل الذي لا يشعر بأي قيمة أو أهمية له في الحياة لدرجة أنه أصبح يرى نفسه وتاريخ ميلاده وكل شيء في حياته وكأنه لا شيء.
بدت مواقف ومفردات بعض الشخصيات تنطوي على جرأة شديدة.. فما السبب؟ كما قلت مواقف ومفردات الشخصيات أي ليست مواقفي أنا؛ لأني لا أكتب عن نفسي وإنما أكتب عن أشخاص وأبطال آخرين، ولأنهم بشر فطبيعي أن تكون لهم مواقفهم ومفرداتهم الخاصة بهم وما هو غير طبيعي أن أفرض عليهم أسلوبي ومواقفي أنا، وإلا لماذا كنت أكتب عنهم من الأساس.
الأفضل للكاتب أن يعيش بين الناس أم يشاهدهم من علياء؟ هذه مسألة نسبية تختلف من كاتب لآخر، وتتوقف على ظروف نشأته وبيئته؛ فأنا لأني ولدت في أسرة بسيطة وعشت بين الناس البسطاء أرى ضرورة تلاحم الكاتب مع الناس حتى يستطيع أن يكتب عنهم، ولكن لو كنت ولدت في ظروف مختلفة ربما كنت كتبت مثل إحسان عبد القدوس مثلا، وبشكل عام التجارب الشخصية للكاتب مهمة ولكن الأهم هو وجود الموهبة والإحساس من البداية.
هناك حالة غياب واضحة لمشاركة المثقفين في الحياة السياسية في مصر.. فما السبب في ذلك؟! السلطة أو النظام؛ حيث أصبح النظام في جانب والمثقفون في جانب آخر تماما، ولكن لا بد هنا من أن نفرق بين المثقف والمبدع؛ لأن المثقف لا بد أن تكون له وجهة نظر سياسية واضحة يعبّر عنها، أما المبدع فلا يمكن أن ينتمي لأي تيار حزبي أو سياسي؛ لأنه لا يستطيع أن يُبدع تحت نظام معين، لكن المثقف المصري بشكل عام غلبان؛ لأنه لا يجد من يسمعه.
ما رأيك في جيل الشباب؟ مصر بها شباب زي الفل، ولكنه لا يجد الفرصة الحقيقية التي يستطيع أن يعبّر بها عن نفسه وذاته؛ لأنه لا يجد من يشعر به، وبالتالي يشعر أنه مهمش في مجتمعه ومع ذلك فما زال هناك أمل؛ لأن الأجيال الجديدة لديها وعي كبير بكل ما يحدث حولها وأنا أشعر بذلك في الندوات التي تقام لرواياتي عندما أناقش الشباب فيها.
معنى ذلك أنك لا توافق على اتهام الشباب بالسطحية؟ أنا ضد أي تعميم؛ لأنه حتى لو كان هناك بعض الشباب يعاني من أزمة فكر أو ثقافة فهذا شيء ليس بجديد على التاريخ، وإنما على مر العصور كان هناك أقلية قائدة وأغلبية تابعة.