عرضنا في الحلقة السابقة إحدى صور الأسر المتأزّمة، وتعرفنا معا متى يكون الحوار بين الزوجين هو الحل، واليوم نستكمل حديثنا عن الطريق الصحيح لإدارة فنّ الخلافات الزوجية. ما هي أهداف الحوار؟ 1- محاولة فهم الآخرين (وليس تعليمهم أو إثبات أنهم على خطأ).
2- إقناع الآخرين بوجهة نظر معينة (وليس إجبارهم على تبني رؤيتنا الشخصية على أنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
3- الوصول إلى صيغة من التفاهم والتعايش والتكامل (وليس إلى تحقيق أهدافنا الشخصية وإثبات وتثبيت رؤانا الخاصة).
4- الارتقاء بالوجود البشري عن طريق تبادل وتكامل وتراكم الخبرات (وليس إثبات أننا الأعلم والأقدر والأحكم).
مرجعية الحوار كلما كانت هناك مرجعية قوية وأرضية مشتركة كان الحوار أكثر إيجابية وثراء وتكاملا, وعلى العكس كلما ضعفت هذه المرجعية أو تشتت أو تعارضت تعطّلت مسارات الحوار أو ضاقت، وأصبح الحوار أقرب إلى الضجيج. وهذا يعيدنا إلى فترة الاختيار وفترة الخطبة، حيث كنا نؤكد وجود تكافؤ اجتماعي وثقافي، وأرضية مشتركة بين الشريكين وحدّ أدنى من الأشياء المتفق عليها؛ حتى تكون قاعدة لحوار إيجابي فيما بعد. والمرجعية هنا أشبه بالدستور الذي يتحاكم إليه الناس, والمعيار الذي يقيسون بها الأقوال والأفعال.
مستويات الحوار 1- الحوار مع النفس: وفى حالة كون هذا الحوار صحياً فإنه يتم بين مستويات النفس المختلفة في تناغم وتصالح دون إلغاء أو وصم أو إنكار أو تشويه. أما إذا فشل ذلك الحوار النفسي الداخلي فإن الاضطرابات الناتجة ربما تدفع بموجات العنف المتراكمة إلى الخارج أو إلى الداخل فتكون مدمرة للآخرين أو للنفس ذاتها.
2- الحوار مع الناس: وهو قدرتنا على التفاهم والتفاعل والتعايش، ليس فقط مع من يتفقون معنا أو يشبهوننا، بل أيضا مع المختلفين معنا والمغايرين لنا.
3- الحوار مع الله: وتختلف طبيعة هذا الحوار عن المستويين السابقين؛ حيث يتوجّه الإنسان نحو ربه بالدعاء والاستغفار وطلب العون، ويتلقى منه سبحانه إجابة الدعاء والمغفرة والمساعدة. وهذا المستوى إذا كان نشطاً وإيجابياً فإنه يُحدث حالة من التوازن والتناسق في المستويين السابقين (أي في حوار الإنسان مع نفسه وحواره مع الآخرين).
في حوار اسمع واستجب على الطرف المقهور الاستجابة دون مناقشة أو تضجّر قبول الاختلاف كسنّة كونية أساس لنجاح الحوار إن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري طبيعي وله علاقة بالفروق الفردية إلى حدّ كبير؛ إذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس ذوي القدرات المتساوية والنمطية المتطابقة؛ إذ لا مجال -عندئذ- للتفاعل بين البشر. وقد يخطئ أحد الزوجين أو كلاهما حين يعتقد أن الحوار الآن سيحلّ كل الاختلافات، ويوحّد الرؤى للأبد بين الطرفين, ولهذا ينزعج حين يكتشف أن ثمة خلافا نشأ حول نفس الموضوع أو موضوع مشابه بعد فترة من الزمن, وأن الطرف الآخر يخطئ؛ إذ لا يحقق كل توقّعاته, ولا يتفق معه في كل أو معظم آرائه.
ألوان من الحوار السلبي: 1) حوار التعجيز: وفيه لا يرى أحد طرفي الحوار أو كلاهما إلا السلبيات والأخطاء والعقبات، وهكذا ينتهي الحوار إلى أنه "لا فائدة"، ويترك هذا النوع من الحوار قدرا كبيرا من الإحباط لدى أحد الطرفين أو كليهما؛ حيث يسد الطريق أمام كل محاولة للنهوض.
2) حوار المناورة: ينشغل الطرفان (أو أحدهما) بالتفوق اللفظي في المناقشة، بصرف النظر عن الثمرة الحقيقية والنهائية لتلك المناقشة.
3) الحوار المزدوج: وهنا يعطي ظاهر الكلام معنى غير ما يعطيه باطنه، وهو حوار يهدف إلى إرباك الطرف الآخر.. ودلالاته أنه نوع من العدوان الخبيث.
4) حوار اسمع واستجب: وهو نوع شديد من العدوان؛ حيث يلغي أحد الأطراف كيان الطرف الآخر، بل عليه فقط السماع للأوامر الفوقية والاستجابة دون مناقشة أو تضجّر. وهذا النوع من الحوار يلغي ويحبط القدرات الإبداعية للطرف المقهور.
5) الحوار السطحي: حين يلجأ أحد الطرفين أو كلاهما إلى تسطيح الحوار طلبا للسلامة أو كنوع من الهروب، وفي هذا الحوار يتجنّب الزوجان فتح الملفات الشائكة أو المسائل الحساسة فتبقى دائما بلا حل.
6) حوار الطريق المسدود: يعلن الطرفان (أو أحدهما) منذ البداية تمسكهما (أو تمسكه) بردود ثابتة تغلق الطريق منذ البداية أمام الحوار وهو نوع من التعصب.
7) حوار الإلغاء: حين يصر أحد طرفي الحوار على ألا يرى شيئا غير رأيه وهو لا يكتفي بهذا بل يتنكر لأي رؤية أخرى ويلغيها.
8) الحوار الموافق دائماً: وفيه يلغي أحد الأطراف حقه في التحاور لحساب الطرف الآخر إما استخفافاً (خذه على قدر عقله)، أو خوفاً، أو طلباً للراحة وإلقاء المسئولية كاملة على الآخر.
9) الحوار المعاكس دائماً: حين يتجه أحد طرفي الحوار يمينا يحاول الطرف الآخر الاتجاه يسارا والعكس بالعكس، وهو رغبة في إثبات الذات بالتميز والاختلاف، ولو كان ذلك على حساب جوهر الحقيقة.
10) حوار الصمت: يلجأ أحد الأطراف إلى الصمت السلبي؛ عنادا وتجاهلا ورغبة في مكايدة الطرف الآخر بشكل سلبي دون التعرّض لخطر المواجهة.
يستحبّ أن يكون المتحدّث حسن الشكل ومهندم الثياب خصائص الحوار الإيجابي وبما أن الحوار عملية تبادلية بين طرفين أو أكثر، وهو يتم من خلال عمليتين أساسيتين هما الإرسال والاستقبال، إذن فلنحاول الآن أن نرى كيف يمكن أن يتم الحوار بشكل فعال من خلال تحسين كفاءة الاستقبال (السماع) والإرسال (التحدّث):
1) الاستقبال (أدب الاستماع): إن أهم شروط الحوار الناجح مع الآخرين حسن الاستماع والفهم لما يصدر عنهم، وهذا الاستماع الجيد يعطي فائدة مزدوجة للطرفين؛ فبالنسبة للمتحدث يشعر بارتياح واطمئنان حيث يجد أن الطرف الآخر يحسن الإصغاء له ويعي ما يقوله، وهذا يعطي فرصة لدوام الحوار والتواصل بشكل جيد وسلس. وبالنسبة للمستمع فإن إنصاته وفهمه الجيد لما يقوله المتحدث يعطيه قدراً من المعلومات وإلماماً بالموضوع يسمح له بالردّ المناسب والحوار المناسب.
ولكن: ما هي الشروط الواجب توافرها لكي نحقق الاستماع الجيد؟ والإجابة هي: * إقبال المستمع بوجه طلق هادئ نحو المتحدث.. مع إعطاء إيماءات المتابعة والفهم من وقت لآخر حتى يتأكد المتحدث أن المستمع معه دائماً. * عدم إظهار علامات الرفض أو الاستياء بشكل يقطع على المتحدث فرصة الاسترسال، إلا إذا كان قطع الاسترسال مطلوباً لذاته. * عدم إعطاء ردود فعل سريعة ومباشرة قبل أن ينتهي المتحدث من كلامه. * عدم ملاحقة كلام المتحدث بكلام من المتلقي بشكل سريع، بل الأفضل السكوت للحظة؛ للاستيعاب وإعادة النظر في كلام المتحدث، ثم ترتيب الأفكار قبل التعليق. * الفهم الجيد لمحتوى الحديث مع محاولة إعادة ترتيبه إذا أمكن. * الإدراك الجيد للمشاعر التي يبديها المتحدث أثناء حديثه، فهذا الإدراك يعطي بعداً مهماً للحديث، من خلال التعرف على الانفعالات المصاحبة للموضوع. * قراءة لغة جسم المتحدث كإشارات يديه وإيماءات رأسه وحركات جسمه. * أن يحاول المستمع ضبط انفعالاته تجاه ما يسمع، وأن يتذكر دائماً أن كل شيء قابل للمناقشة والتحاور والأخذ والرد، وأن الانفعالات الحادة تقطع طريق التواصل الجيد، وتعتبر إحدى علامات عدم نضج الشخصية. * ألا يعتبر المستمع نفسه في موقف القاضي الذي يستمع فقط ليقيم محدثه ثم يحكم له أو عليه.
2) الإرسال (أدب التحدث): حين يتحدث شخص أمام الناس بهدف توصيل رسالة أو مفهوم معين، فعليه أن يضع في الاعتبار الأشياء التالية:
شكل المتحدث ومظهره 1- يستحبّ أن يكون المتحدث حسن الشكل، حسن المظهر، مهندم الثياب في بساطة، وأن يخلو مظهره ولباسه من الأشياء الصارخة واللافتة للنظر؛ حتى لا يشتت انتباه المستمع.
2- يجب أن يقبل المتحدث بوجهه نحو المستمع (أو المستمعين).
3- ويتأكد المتحدث قبل وأثناء وبعد الحديث أن أعضاء جسمه في حالة استرخاء وفي وضع مريح، فلا يأخذ أوضاعاً تؤدي إلى التوتر العصبي أو العضلي، أو تثير دهشة أو سخرية المستمع.
4- يحرص المتحدث على عدم المبالغة في إظهار الانفعال إلا لضرورة (كأن يثير حماساً معيناً في موقف يستدعي الحماس)، وألا يبالغ في حركات يديه أو جسمه أثناء التحدث.
5- التوسط في سرعة السرد؛ فلا يكون بالبطيء المملّ ولا بالسريع المخلّ.
ولعل سائلا يسأل: كيف نخرج من ذلك الطريق المسدود، والذي قد يؤدي للعديد من حالات الطلاق؟ والإجابة عن ذلك التساؤل ستكون في الحلقة القادمة لنرى معا أنه أحيانا يكون الطلاق هو الحل...