عندما وصف لي صديق هذه الرواية بأنها "تحرق الدم"، كان هذا أدقّ وصف لرواية "بيروت 1982" للكاتب اللبناني غسان شبارو؛ فكأنما يصبّ هذا الرجل بقلمه نفطاً مشتعلاً في عروق من يقرأ روايته تلك. لدينا "بيروت" ولدينا "1982"، مدينة وتاريخ تزاوجا فأنتجا مأساة عاناها لبنان كله، بين اجتياح إسرائيل له، وخيانة بعض أبنائه إخوانهم في الوطن؛ لأسباب تفوح منها رائحة عفِنة، هي رائحة العنصرية والطمع في مكاسب خاصة، ليأتيَ بعد ذلك الطوفان. بيروت.. مدينة كل ذنبها أن كان تؤمن أن للعربي حقاً على العربي، وأن إيواء المقاومة الفلسطينية واجب قومي؛ الأمر الذي لم يُعجب إسرائيل في الخارج، والميليشيات العميلة في الداخل؛ فتكالب كل هؤلاء على المدينة الباسلة، وكان الاجتياح والحصار سنة 1982. يدخل بنا غسان شبارو وسط هذه الأحداث، من خلال شخصيات روايته: البروفيسور سامي شومان، الأستاذ بالجامعة الأمريكيةببيروت، راشد، التلميذ النجيب للبروفيسور، وشخصيات متنوعة من زعماء المقاومة الفلسطينية، ورجال الجيش اللبناني، ومدنيون من كل ملة وتيار.. فضلاً عن شخصيات عامة تعبث عن بُعد بمقدّرات هذا البلد، أسماء مثل: شارون، وبيجين، وبشير الجميل.. تتلاقى أيديهم لتقطع جسد بيروت؛ الأول والثاني يريدان خنق المقاومة، والثالث يطمع في رئاسة الدولة اللبنانية ولو كان الثمن خيانة مباشرة لا يختلف على حقارتها اثنان. وتتلاقى خيوط الأحداث بشكل أشبه بشبكة عنكبوت نشط، بين مخطط إسرائيلي لتقسيم لبنان وتحويله لتابع لتلّ أبيب، ومقاومة فلسطينية مُصرّة على الصمود أمام التحدي الكبير، ولبنانيون وطنيون -منهم بطلا الرواية د. سامي وراشد- يسعوْن للعب دور إيجابي ضد القوات الإسرائيلية والميليشيات العميلة.. ووسط كل هؤلاء مدنيون كل ذنبهم أنهم يقفون في طريق الصواريخ والدبابات والقذائف المتناثرة هنا وهناك. رواية "بيروت 1982" يمكننا اعتبارها عملاً وثائقياً أكثر من كونها رواية أدبية؛ فهي ثرية لحدّ الازدحام بأدقّ التفاصيل عن تلك الأيام العصيبة في التاريخ اللبناني، وعلى كل المستويات -السياسي والمدني والعسكري- بحيث لم يُغفل المؤلف تفصيلة واحدة، وفي نفس الوقت استطاع أن يُجيد توظيف كل تلك التفاصيل والأحداث لخدمة العمل بشكل يجمع بين حِرَفية التوثيق وبراعة العرض الأدبي. وقد تميّز عمله كذلك بإجادته التوفيق بين الخطّين التاريخي والدرامي؛ بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر؛ بل على العكس، خدَم كل منهما الآخر بشكل واضح؛ فقد أجاد المؤلف استغلال الأحداث التاريخية لصُنع الحدث الأدبي، وأجاد توظيف الخط الدرامي لتقديم الحدث التاريخي، وتعميق التفاعل الإنساني معه بشكل يليق برواية إنسانية تتناول مأساة بلد كامل تركت جرحاً غائراً في النفس العربية. أما عن عنصر حرق الدم -سالف الذكر- فقد بدا في الصراحة الشديدة التي تناول بها المؤلف فظاعات الجيش الإسرائيلي في بيروت، وزاد من الأمر تدقيقه في أدقّ تفاصيل خيانة حزب الكتائب بلادهم لصالح إسرائيل، وهذا لخدمة مطامع رئيس الحزب بشير الجميل، لشغل منصب رئيس الدولة، وحلمه العنصري بدولة مسيحية خالصة؛ حتى ولو قام كرسيه على جثث الآلاف من السُّنّة والشيعة والدروز. وتعرّض المؤلف للعلاقة الحميمة بين الجميل والقيادة الإسرائيلية، بشكل يستفزّ العاطفة القومية والوطنية للقارئ.. ويقوم من وقت لآخر بعمل "زووم" على معاناة المواطن البيروتي البسيط وسط تلك "المطحنة" السياسية الحربية؛ كل هذا بلغة ومفردات وتفاصيل تنقل القارئ من حالة القراءة، لحالة المعايشة، وتتركه بعد الانتهاء من الرواية في حالة صدمة قاسية. الأدب الحربي مظلوم في أدبنا العربي؛ فقلّما تخرج لنا رواية عربية حربية مؤثرة مثل "الرفاعي" لجمال الغيطاني، و"العمر لحظة" ليوسف السباعي، و"السهول البيض" لعبد الحميد جودة السحار.. وروايتنا تلك "بيروت 1982".. وتلك الأخيرة بالذات تستحقّ أن تحتلّ مكانة متميزة؛ فيما يمكن تسميته "الرواية التوثيقية"، لثراء تفاصيلها وكمّ الطاقة الشعورية التي تتدفق من سطورها للقارئ؛ صحيح أنها بهذا تستحقّ وصف "رواية تحرق الدم"؛ لكن أحياناً يكون حرق دم القارئ مسألة مطلوبة في الأعمال التي تتناول واقعاً عربياً بقسوة ما جرى في بيروت 1982.