في غمار العالم الافتراضي الذي فُرض علينا فبتنا نحيا بداخله؛ وصلتني رسالة عبر الموقع الاجتماعي الشهير فيس بوك، من أحد الجروبات التي انتشرت في الآونة الأخيرة على طريقة "تحداني كلب رومي أن أجمع مليون شخص للقضاء على الكلاب البلدي"! المهم أن الرسالة كان عنوانها "إوعى تقول للمسيحي كل سنة وهو طيب في عيد الميلاد". وعندما تقوم بفتح الرسالة تجد أن مرسلها أخذ يسوق الدلائل والبراهين التي يراها أنها واجبة على كل مسلم ومسلمة، وأن من لا يؤديها، بل وينشرها، فإن إيمانه لا يكتمل.. بل وتمادى في غيّه وقال إنه إن قلت لأحدهم "كل سنة وأنت طيب" بهذا أصبحت مشاركا في الكفر. يا إلهي أغثنا مما وصلنا إليه من تفكير بات العقم هو سِمَته المميزة. الواقع أنني شخصيا تربيّت على عدم وجود شخص مسيحي وشخص مسلم. كلنا في التعامل سواسية، وأمر الدين هذا يرجع فقط لخالقنا. حتى إن سكان شارعي كله من الأقباط. لم أفكّر يوما أو أتوقف عند هذا الأمر؛ حتى جاءتني تلك الرسالة المؤلمة. ووجدت أن الأمر قد تخطّى العالم الافتراضي ليتواجد على أرض الواقع. حدث ذلك عندما ذهبت لحلاقة شعري، وجدت الحلاق -الذي يدين بالمسيحية- متجهّم الوجه، ظننته للوهلة الأولى يرغب في المزيد من الأجر؛ لكن معرفتي به جعلتني أستبعد هذا الأمر، سألته عما به، فقال لي: "هو صحيح عندكم بيقولوا إنه حرام تقولوا لنا كل سنة وإحنا طيبين؟ طيب ليه ما إحنا بنقول لكم.. وطول عمرنا بنعيّد على بعض عادي". آلمني جدا حديثه النابع بكل صدق من قلبه، قمت فاحتضنه وعيدّت عليه، وأخبرته بأن هذا غير صحيح، وأن الدين الإسلامي بعيد كل البعد عما يقوله هؤلاء الجاهلون. والحقيقة أنني لا أتحدث اعتباطا؛ بل إن العلّامة الدكتور يوسف القرضاوي قد أفتى بذلك بنفسه في برنامج "الشريعة والحياة"، الذي يحلّ ضيفا عليه باستمرار في قناة الجزيرة، وجاء ذلك في حلقة يوم الأحد 19/ 12/ 2010 لمن أراد التأكّد. وأجاز القرضاوي معايدة الأقباط، وقال ما نصه: "الجار وجاره، الطالب وصديقه، الرجل وزميله في العمل. وقال إنه ليس هناك حرج في ذلك؛ باعتبار أننا نسيج واحد، ونستظلّ بسماء واحدة في دفء وطن واحد". وكان دليله في ذلك قول الله عز وجل في سورة الممتحنة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، وأردف في الحديث أن المباركة والتعييد على الأقباط يندرج تحت بند "البرّ". إذن نحن أمام فتوى من عالِم له ثقله في المحيط الإسلامي؛ فلماذا مثل هذه الرسائل والدعاوى التي تهدم كل الأواصر بيننا وبين أهل بلدنا الغالي مصر؟ لماذا لم نسمع مثل هذا الكلام قديما؟ تشعر أن مثل هذه الحملات مؤخرا تنطلق خصيصا لتهدم كل لبنة يتم تثبيتها في جدران هذا البلد العظيم. ونجد كذلك الكاتب الكبير بهاء طاهر يتحدث عن هذا الأمر في مقدمة روايته البديعة "خالتي صفية والدير"، حيث يقول إن والده ربّاه على خُلق الإسلام الصحيح، والذي يتعامل به مع الناس جميعا على حد سواء. وأن والده، ذلك الشيخ الأزهري، لم يسمع منه يوما كلمة تفرّق بين الناس بمقولة هذا مسلم وهذا مسيحي. نعم ما ذكره بهاء طاهر، وأفتى به القرضاوي هو الذي يجب علينا أن نحذو حذوه، ونسير على هداه. ليخرج كل منا لزيارة جاره القبطي، وزميلته القبطية.. لنقابل بعضنا في حب وبشاشة اختفت منذ زمن.. لنضرب بكل هذه الأسافين عرض الحائط. سأخرج هاتفي.. سأحدّث أصدقائي مينا وكيرلس وروميل.. سأقول لهم مثلما قالوا لي في عيد الأضحى: كل سنة وأنتم طيبون.. كل عيد ميلاد مجيد وأنتم أفضل حالا.. كل عيد ونحن أكثر ترابطا.. ووقانا الله شر أمثال هؤلاء وفكرهم الهدام.