عندما تكتب القصة أو الرواية فأنت تنسج خيالاً؛ لكن عندما تكتب مقالاً فإنك توثّق حدثاً، وتُبرز رأيك في صراحة ووضوح. هذا ما فَعَلَته الكاتبة الكبيرة أهداف سويف، التي طلبت منها صحيفة الجارديان البريطانية أن تذهب إلى فلسطين لتُسجّل بقلمها أوضاع الانتفاضة على الطبيعة، وكان ذلك في عام 2000؛ فأخرجت مجموعة من المقالات كانت نتاجاً لسنوات أربع حواها كتاب "في مواجهة المدافع"، الذي قدّمت فيه الكاتبة صراع الإرهاب وقوى الحضارة بمعناه الحقيقي كصراع سياسي اقتصادي، تتلون فيه اتجاهات استعمارية قديمة بألوان جديدة، دون علاقة بدين أو بأمة.. الصراع القائم بين قلة تريد السيطرة، وكثرة تريد فقط العيش الكريم. الكاتبة رأت هوة عميقة بين شعوب العالم الثالث والغرب، كما أن هناك صورة مُشوّهة تماماً للمسلمين عندهم، وهكذا وجدت نفسها مصرية تكتب باللغة الإنجليزية في إطار حاولت فيه تقديم صورة حية وصادقة تجد صداها المأمول في وجدان القارئ غير العربي. تصدّر الكتاب مقدمة للقارئ العربي، رفَضَتْ أهداف خلالها تماماً مفهوم التطبيع مع إسرائيل؛ حتى إنها ذهبت لفلسطين عن طريق الأردن، وبالسير مع فلسطينيين. ووصفت طبيعة علاقتنا مع إسرائيل بأنها "العدو الذي قاتلناه وقاتلنا، عدو متربص بنا دائماً، يتسبب في خلق القلاقل في مجتمعنا، العدو اليقِظ لنقاط الضعف فينا ينفذ منها". ثم ذكرت الكاتبة المشكلات التي تعرّضت لها لنشر المقالات؛ إذ تجاوزت الحد المسموح لها من حيث عدد الكلمات، وبأسلوبها الروائي الذي طغى على المقال؛ فتعلّلت بأنها لم تفعل سوى نقل الصورة كاملة، حتى خشيت صحيفة بريطانية كبيرة كالجارديان من غضب وردود أفعال رجال الأعمال اليهود؛ لكنه في النهاية تمّ نشره. الفئران في المصيدة بدأت أهداف حديثها الذي اتخذ الطابع السردي، وتشكّل بنمط الحكايات اليومية، بعيداً عن الأسلوب الخبري للمقال؛ قصّت علينا كيفية دخولها للقدس، وكان ذلك مطلع شهر رمضان من عام 2000، وتناولت وصف المكان والأشخاص بصورة دقيقة، كما ركّزت بشدة على الحوارات الجانبية التي كانت تدور بين الفلسطنيين وبعضهم؛ فهذا طفل يهتف "يا صدام يا حبيب.. تعالَ فجّر تل أبيب"؛ وذلك الشاب الذي يقول: "لو أن مصر والأردن تفتحان الحدود، نحن الآن فئران في مصيدة". وأسهبت الكاتبة في التحدّث عن نفورها من الشخصية الإسرائيلية، وتودّدها إلى السيدات اللاتي يتبرّمن من شارون، الذي اشترى الأرض وغذّاها بالمستوطنين؛ مائة مستوطن يضعون 40 ألف إنسان تحت حظر التجول، 12 ألف طفل لا يستطيعون الذهاب لمدراسهم، 15 مسجداً مغلقاً. كما أن محاولتها للولوج لرؤية الحرم الإبراهيمي من الداخل باءت بالفشل، ولجأت لبيت رجل عجوز وزوجته. فليتركوا التكنولوجيا الأمريكية ويلاقونا رجلاً لرجل كما تنتقل الكاتبة للحديث عن نفسها.. عن مشاعرها التي تختلجها.. الدموع التي تملأ عينيها بمجرد سماع شهادات الأطفال، ولولا أن أولادها في لندن؛ لمكثت في هذا البلد للأبد. ذكرت أهداف أنه أثناء ذلك تعرّضت لحادث إلقاء قذيفة، تسببت لها في كدمة زرقاء بكتفها؛ ولكنها كانت من جنود يرتدون ثوب الجبن، جنود يخاطبهم فلسطيني ثائر قائلاً: "فليخرجوا من خلف الحواجز، من خلف الرشاشات والدبابات والتكنولوجيا الأمريكية، فليلاقونا رجلاً لرجل، حجارة لحجارة". بعد ذلك تسلك الطريق الوعر لرام الله، وتصل لجمعية تهتمّ بأمور الأطفال الذين يلعبون تحت وطأة مدافع الجيش المتمركز فوقهم، هؤلاء الأطفال الذين لا يخلو واحد منهم من فقدان أب أو أخ بين السجن والاستشهاد أو الأسر، بعد أن يرى الطفل والده وهو يُضرب أمام عينيه.. ثم تُعقّب أهداف سويف: "أقول: الإعلام في بريطانيا يتساءل: لماذا تسمح الأمهات للأطفال بالخروج وقذف الجنود بالحجارة؟". مسلمون ومسيحيون.. كلهم تحت احتلال واحد ثم تسوق النماذج على لسان السيدتين ريما طرزي، وفاطمة جبريل، اللتين تدين واحدة منهما بالمسيحية والأخرى بالإسلام، وتعملان تحت لواء واحد في حب وإخلاص من أجل حياة مشرقة لجمعية "إنعاش الأسرة"؛ تلك الجمعية التي أغُلقت؛ لأن إسرائيل رأتها خارجة على القانون! اتفاقية أوسلو.. الخدعة التي شربتها السلطة الفلسطينية "اتفاقية أوسلو" كان لها جانب من الحديث؛ حيث الخدعة التي شربتها السلطة الفلسطينية طواعيةً واختياراً؛ إذ وافقت إسرائيل على تسليم بعض المدن، واحتفظت بالمناطق المأهولة لهذه المدن؛ وهكذا تعيّن على أهل هذه المدن المحاصرة إذا رغبوا في التحرك من مدينة لأخرى أن يحملوا تصاريح يوافق عليها الأمن الإسرائيلي. كما لم تغفل اهتمام بعض الإسرائيليين بالقضية الفلسطينية؛ ك"أميرة هاس" في هاآرتس، وكذا "يوري أفتيري"؛ لكن ثمة حلقة مفقودة؛ فهما يتحدثان مع الجانب الفلسطيني؛ لكنهما لم يتحاورا أو يؤثّرا في حكومتهما المغتصبة. "خليهم يطخوني" حكت أهداف كذلك عن حضورها صلاة الجمعة بالمسجد الأقصى، عن النفوس الثائرة عقب الصلاة، السيدة البدوية التي تدفع بنفسها وسط الجنود المحاصِرة، ولا تأبه بتحذيرات مَن حولها؛ هاتفة "خليهم يطخوني! هو أنا أحسن من ها الشباب؟!". ثم تذكر حديث مروان البرغوثي -أحد أضلاع الرعب لإسرائيل- الذي يتساءل: "إن كانت هناك مساحة تسمح بالخروج من حفرة صورة الضحية دون الوقوع في دحديرة صورة الإرهابي الإسلامي المتطرف؟!". ثم تواصل كاتبتنا رحلتها، سعيها من أجل الوصول للحقيقة. تذهب بعد عناء ومشقة بالغة، وتجري حواراً مع المستوطن حاييم بلوخ، الذي يرى أن هذه الأرض من حقهم، وأن الله وعدهم بها منذ 37 ألف سنة، وأن إسرائيل كدولة تحترم القانون، ويجب على الفلسطنيين أن يرضوا بكونهم مواطنين من الدرجة الثانية يعيشون في ظلّ سيادة الدولة اليهودية. بهذا الحوار تصل الكاتبة لبيتها في لندن وتعلّق قائلة: "أنا غاضبة أكثر من ذي قبل، ولا أصدق أن ما يحدث في فلسطين كل يوم للنساء والرجال والأطفال أمر يسمح له العالم أن يستمرّ". وتختم الفصل بجملة جامعة على لسان إحدى السيدات "لا تسمعين الزغاريد اليوم إلا في مواجهة الموت، انقلب عالمنا رأساً على عقب". وللحديث بقية،،،