كريم عبد السلام كل يوم اثنين في تمام الساعة التاسعة أتسمر أمام التليفزيون منتظراً موسيقى الناي الحزين لبرنامج "العلم والإيمان"، ثم يدخل وجه الدكتور مصطفى محمود بنظارته الواسعة إلى الكادر ويُحييني أنا والجالسين أمامه "أهلاً بكم"، لتبدأ الرحلة الأسبوعية في الكون الواسع، رحلة كنت أستغرق فيها بكياني كله، أتشرب عالماً جديداً من الصور والمعلومات والحقائق التي كنت أعتبرها في ذلك الوقت أعظم المنجزات العلمية، كما كنت أعتبر الدكتور مصطفى محمود أعظم العلماء والمفكرين في عصره.
تنتهي الحلقة وأسرع لتسجيل ما فهمته منها، ورأيي فيها لأعرضه على عدد من زملائي في مدرسة المنصورة الثانوية، كلنا أنا وزملائي في تلك الفترة كنا نحلم أن نكون مثل مصطفى محمود، بعض زملائي راسلوه على عنوانه ورد عليهم برسائل تشجيع، لكني رغم أني كنت معلمهم الذي يشرح لهم كل أسبوع خفايا ما يقصده مثلنا الأعلى من حلقته التي رأيتها، إلا أنني لم أراسله مثل زملائي؛ ربما لأني وجدت رسائله إلى الزملاء فيها هذا التشجيع الذي كان يبديه مدرس اللغة العربية لنا نحن المتفوقين في اللغة العربية الذين كنا نكتب خواطرنا، تشجيع مصحوب بعبارات: "استمروا وادرسوا.. بس الطريق طويل". بينما نظن أننا عباقرة، كنت أريد من مصطفى محمود الذي أتسمر أمام كلامه وصوره وضحكاته وتعليقاته في العلم والإيمان، أن يعترف بعبقريتي وأن يشيد بي في برنامجه؛ ولأني لم أكن واثقاً من أنه سيفعل ذلك، لم أراسله مثل زملائي الذين بعثوا له بأشعارهم وقصصهم الساذجة ورد عليهم ب"استمروا وادرسوا.. بس الطريق طويل".
لم يكن ينافس برنامج مصطفى محمود على عقولنا المتفتحة سوى كتب مصطفى محمود، كنا نلتهم كتبه التهاماً حتى يسود غلافها الأبيض المميز الذي يحمل صورته المرسومة، "حوار مع صديقي الملحد"، "رحلتي من الشك إلى الإيمان"، "لغز الحياة" و"لغز الموت"، كنا نتبادل هذه الكتب ونتسابق في الكتابة على هوامشها بألوان مختلفة، كلنا في تلك السن المبكرة كنا فلاسفة كباراً، نمارس التشاؤم والإلحاد على خفيف، وقد نضيف إلى مصطفى محمود فكرة أو فكرتين نرى أنه كان بحاجة للتركيز في الكتابة حتى يصل إليها، ونكتب له عدة توصيات وملاحظات لا ليراها هو طبعا، ولكنها كانت الطريقة التي نعبر بها لبعضنا البعض عن قدرتنا على فهم الرجل والتواصل معه، وكان هو الغائب الحاضر وسطنا، كأنما هو الحكم الذي يرى لعبنا الطفولي ويحكم عليه؛ ليعطي كلاً منا درجة من عشرة لنتباهى أينا أكثر تفوقاً ومعرفة ودراية بما يكتبه الدكتور.
كتابه "الأفيون" وكذلك "العنكبوت"، استغرق ليالي عديدة من التفكير في كيفية تطبيق ما جاء في الكتابين من تجارب، لكنها انتهت والحمد لله بمحاولة جماعية للتأليف على نفس منوال الكتابين، وخرجنا بشطحات أقرب إلى "فرانكشتاين". أما كتابه "رأيت الله" فقد دفعنا دفعاً إلى تقسيم أنفسنا لإجراء بحوث حول تصور الإنسان عن الله "سبحانه وتعالى" في اليهودية والمسيحية والبوذية والهندوسية والزرادشتية، وعن الفرق الصوفية والباطنية في الإسلام، وكم أتمنى أن أعثر على هذه المحاولات البحثية المقارنة، أما الضجة المفتعلة حول كتابه "الشفاعة"، فكان المؤلم فيها حكم عدد من الأكاديميين على مصطفى محمود، بأنه مجرد طبيب هاوٍ لا علاقة له بالعلم التطبيقي ولا بالعلوم الإسلامية من فقه وتفسير وحديث، وهي أقوال رأينا أنها نوع من التجني الجارح على أحد كبار النجوم في سمائنا الضيقة آنذاك.
بعد مرور 20 عاماً تقريباً، على أيام العلم والإيمان الساحرة، وعلى الهوس بكتاب العنكبوت، يرقد الدكتور مصطفى محمود في غرفة العناية المركزة في حالة حرجة، الزيارة ممنوعة إلا لأفراد أسرته، إدارة الجمعية الخيرية التي أنشأها باسمه تتنازع تليسكوبه الفلكي وشقته الصغيرة مع ابنيه أدهم وأمل. ولوتس عبد الكريم صديقته القديمة تروي عنه -على موقع "العربية.نت": "أن الجن هو سبب ما يُعانيه من أمراض؛ لأنه كان يستدعيه لقضاء حاجات أصدقائه، فيأتي إليه الجن مسرعاً ويحتضنه بمحبة، ولأنه مخلوق من نار فقد سبب له الكثير من الآلام والأمراض".
لم أعد أعرف عن الزملاء القدامى من مريدي الدكتور شيئاً، صدر لي ثمانية كتب بين القاهرة وبيروت، لكني لم أفكر في الذهاب بأحدها إلى الرجل الذي أسهم في تشكيل رؤيتي خلال تلك السنوات الأولى من تفتح الوعي، كيف لم أذهب إليه؟ كيف لم أسع لمحاورته؟ هي الستارة التي نضعها بيننا وبين من نحب، نخشى عندما نلقاهم أن يعرفوا أنهم مروا عميقاً على أرواحنا وعقولنا، وتركوا آثاراً محفورة بأسمائهم. الغريب أن "اليوم السابع" قريب جداً من المكان الذي اختار أن يبني فيه مسجده ومركزه الطبي ومتحفه الجيولوجي ومرصده الفلكي، أمر عليه كل يوم تقريباً، وكثيراً ما يسألني أحد المارة: أين جامع مصطفى محمود؟!! فأتطوع بإرشاده إلى الطريق.
نشر هذا المقال في جريدة اليوم السابع قبل وفاة الراحل د. مصطفى محمود في عدد الخميس22 أكتوبر 2009 داخل ملف بعنوان: "مصر اللي بنحبها"، ونحن نعيد نشره بمناسبة رحيله أمس السبت 31 من أكتوبر.