بين الذين يعتبرون "السلفية" شمّاعة نُعلّق عليها كثيراً من سلبيات المجتمع، والذين يصابون ب"حساسية" فور سماعهم أي نقد ل"السلفية"، أو من ينتسبون إليها, يا قلبي لا تحزن! أنا لست "سلفي" الاتجاه؛ ولكني كمثقف مسلم، لا أستطيع أن أقبل ذلك التشويه لمعنى مفهوم ديني؛ سواء من أتباعه أو من خصومه. الأمر يحتاج لفهم قبل أي شيء؛ لإعطاء كل ذي حق حقه، وفكّ ذلك "الاشتباك" في المسمّيات والمفاهيم. ما هي "السلفية"؟ "السلفية" هي ببساطة: الميل لتطبيق اتجاه السلف ومنهجهم في الحياة، وهي اتجاه ينشأ عادة في المجتمعات ذات الخلفية الدينية والثقافية العريقة؛ حين تتعرض لوارد الثقافات الخارجية, وهي ردّ طبيعي؛ بل وصحي, في المجتمع الراغب في الحفاظ على هويته؛ ولكن بشرط أن لا تتجاوز وظيفتها فتتحول إلى تشدّد وتزمّت ورفض للآخر؛ فهنا ستتحول هي نفسها لخطر على المجتمع, وستكون قد خرجت عن منهجها نفسه.. ومع الأسف هذا ما كان, أحياناً لا دائماً. تعالوا نتأمل السلف, السلف في الإسلام هم القرون الأولى من المسلمين, من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين, هؤلاء هم "آباء الحضارة الإسلامية"؛ مما يعني بالضرورة أنهم لم يكونوا متشددون ولا متعصبين ولا متزمتين, لم يختصروا الدين في جلباب قصير ولحية كثّة وقائمة من المحرمات.. وبمودة وعدل، جاوروا المسيحي واليهودي والمجوسي والصابئي, وأخذوا العلم عن الأمم السابقة -بما لا يخالف الشريعة الإسلامية- وطوّروه ووظّفوه وعدّلوه، وأضافوا إليه ليخرجوا لنا بأعظم نموذج للحضارة الإنسانية الحقة. ومن رحمة الله بنا وحكمته، أنهم كانوا يختلفون في الفروع مع اتفاقهم في الأصول؛ مما أتاح للمسلمين سَعة في تصريف أمور حياتهم، ومراعاة لاختلافات الزمان والمكان, وأدى ذلك لظهور مذاهب عدة؛ أهمها المذاهب الأربعة: الشافعية والمالكية والحنبلية والحنفية؛ فضلاً عن مذهبي "ابن حزم" في الأندلس والإمام "زيد" (الزيدية) المنتشر حالياً باليمن وعمان. "السلفية" الحقة إذن هي السير على منهج هؤلاء, مع عدم إغفال ضرورة مراعاة المعطيات الزمانية والمكانية, كما فعل أسلافنا العظام. جملة اعتراضية كون أن "السلفية" هي تطبيق منهج السلف، لا يعني أن من ليس سلفياً ليس بمسلم؛ فما دام أنه اتفق مع السلف في العقيدة والأحكام المعلومة بالضرورة (وهي الأمور المتفق عليها تماماً بالنص أو بآراء الفقهاء)؛ فهو مسلم؛ ولكن الفارق بينه وبين "السلفي" هي أن هذا الأخير يكون أكثر تشدداً في اتباعه سُنة السلف، في الأمور التي تشهد أحياناً اختلافاً بين المسلمين, أو تلك التي تتعلق بحريته الشخصية في مظهره وملبسه ونمط حياته دون تأثير في الآخرين. ووجود اتجاهات مختلفة تناول الدين وتطبيقه في المجتمع، أمر صحّيّ يحقق التوازن المطلوب في مواجهة كل من التيارات المتطرفة في "التزمّت", أو تلك المتطرفة في العلمانية. "السلفية" المُفتَرَى عليها السؤال الآن: ماذا نرى من هذا في ما يأتينا به كثير من المنتسبين للمنهج السلفي؟ ما دام أنك ستنتهج منهجاً تنسبه للأسلاف؛ فلماذا لا تأخذه كله برُمّته؟ من يتفق معي في أن كثيراً ممن يصنّفون أنفسهم ك"سلفيين"؛ إنما يظلمون السلف الصالح بانتهاجهم منهجاً مغالياً في التشدد والتعصب ورفض الآخر, ما أنزل الله به علينا من سلطان؟ ذلك الذي يرفض التعامل مع مسيحي أين موقفه من الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي تُوفي ودرعه مرهونة عند يهودي؟ والذي يختار من الأحكام أشدها وطأة مع وجود أيسرها، أين هو من عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-الذي نهى عاملاً له عن التشدد في الحكم كي لا يُفسد على الناس دنياهم ويفسد على نفسه آخرته؟ ما الذي تعلّمه الذين يرفضون تعلّم ثقافات الشعوب الأخرى من زيد بن ثابت -رضي الله عنه- الذي كان يُطالع كتب أهل الأديان الأخرى، ويجيد أكثر من لغة, بأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هؤلاء هم السلف الصالح وفي المقابل, يحلو للبعض أن يلوك تعبير "السلفية" كمبرر جاهز لكل نقائص مجتمعنا.. وهذا بالطبع أبعد ما يكون عن العقل والمنطق السليم؛ فأولاً لا يمكن تلخيص أسباب هذه الظاهرة أو تلك في عامل واحد, وثانياً يجب أن يتمّ الاتفاق على معنى واضح لتعبير "سلفية" ومعايير تصنيف هذا الشخص أو ذاك أنه "سلفي"؛ كي يكون توظيف التعبير علمياً وعملياً.. وأخيراً ينبغي أن توجد قناة حوار بين من يتزعّمون التيار السلفي والمثقفين؛ ليفهم كل منهما الآخر. إن عدم وجود تعريف جامع مانع ل"السلفية" وقواعد لتصنيف هذا الشخص أو ذاك, أو هذه الجماعة أو تلك, بالانتماء لها, هو أمر لا يُعقَل, ربما لهذا أجدني مضطراً حين أتحدث عمن يقول عنهم البعض -أو يقولون عن أنفسهم- "سلفيين"، أستخدم عبارات مثل "المنتسبين للسلفية" أو "من يُصَنّفون كسلفيين".. وهو أمر لا يمكن قبول استمراره ما دام أنها حركة لها وجودها على الساحة. والنتيجة لغياب معنى متفق عليه ل"السلفية"، هي أنه تعبير تائه مظلوم بين من ينسبون أنفسهم له لمجرد أنهم قرروا أن يُطلقوا اللحى ويرتدوا الجلباب ويلازموا المسجد, ومن يحلو لهم إطلاقه على كل من يختلفون معه من رجال الدين أو أصحاب الاتجاهات الدينية, ومن يغضبون حين يوصف رجل الدين هذا أو ذاك بأنه سلفي, كما لو كانت -لا سمح الله- سُبة! وبالطبع من نافلة القول، أن نذكر أن المستفيدين من حالة عدم فهم "السلفية" -سواء كان عدم الفهم من قِبَل أتباعها أو خصومها- هم المنتمون للتيارات العلمانية المتطرفة, والذين يحلو لكثير منهم الصيد في الماء العكر, أولئك الذين يصفهم الأستاذ فهمي هويدي بأنهم "يعتبرون أن الحل للقضاء على التطرّف هو القضاء على التديّن!". اقرأ الله تعالى قالها من فوق سبع سماوات {اقْرَأْ}.. هذا ما نحتاجه -ببساطة- لنفهم مختلف تيارات الإسلام, ولنعلم كيف نشأت، وما أوجُهُ اختلافها عن غيرها, وخطوط سير تطورها، وكيف أصبحت..إلخ. المشكلة أن ثمّة أمراً ملحوظاً، هو غياب المعرفة بتلك التيارات -ومنها "السلفية"- عن كثير ممن يتعصبون لها أو يتعصبون ضدها. على أية حال، أنا أنصح من يريد أن يقرأ عنها، بكتب مثل: "تاريخ المذاهب الإسلامية"، و"أصول الفقه" للإمام محمد أبو زهرة, و"تيارات الفكر الإسلامي"، و"مسلمون ثُوّار" للدكتور محمد عمارة، وغيرها من الكتب للعلماء والمفكرين الإسلاميين.. والمكتبة الإسلامية زاخرة بالأعمال القيّمة التي تتحدث عن التيارات والاتجاهات المختلفة. إذن -عزيزي القارئ- لو كنت ممن يتعصبون للاتجاه السلفي دون فهم, أو يعادونه دون علم؛ فاللوم هنا عليك وحدك -أمام الله وأمام نفسك- لو لم تسع إلى فهم ما تؤيده أو ما تنتقده.