1909.. تذكّر هذا العام جيدا، فهو عام ولادة أول "كيبوتس" على أرض فلسطينالمحتلة، تحديدا على ساحل بحيرة طبرية.. ولكن.. ما هو الكيبوتس؟
بذرة الاستيطان كيبوتس كلمة عبرية تعني "التجمّع"، جمعها هو "كيبوتسيم" وتصغيرها "كيبوتساه"، وهي ببساطة أهم نواة للمجتمع الاستيطاني الإسرائيلي، فالكيبوتس عبارة عن تجمّع بشري صهيوني للمستوطنين فوق أرض مسيّجة تعيش حياة قائمة على الاشتراكية والاكتفاء الذاتي -في الطعام والشراب والاحتياجات الإنسانية بل والدفاع المسلح- والانفصال شبه التام عن المجتمع، رغم أنها تعد أهم خادم للسياسة الاستيطانية الإسرائيلية، وكذلك لسياسة حلول الصهاينة محلّ السكان الأصليين لفلسطين: العرب. وعدد سكان الكيبوتس قد يصل إلى حوالي ألف نسمة، والدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- يشبّه نظام الحياة فيه بنظام "خشداشيات المماليك" في مصر في العصر المملوكي، حيث الحياة عسكرية قائمة على إلغاء الفردية والفناء في الجماعة. وجدير بالذكر أن الكيبوتس قد أفرز أبرز أسماء القيادات الإسرائيلية أمثال شيمون بيريز وموشيه دايان وديفيد بن جوريون وجولدا مائير.. اشتراكية مطلقة.. اكتفاء ذاتي شبه كامل.. ولا إنسانية مفرطة في مجتمع الكيبوتس أنت لا تملك شيئا.. لا تشتري شيئا قبل الانتقال إليه، ولا تأخذ شيئا في حال رحيلك عنه. أثناء حياتك فيه أنت تتشارك مع كل فرد به في كل شيء بلا استثناء، حتى الملابس الداخلية! فكل شيء هنا تصرفه لك إدارة الكيبوتس وفق احتياجاتك، دون أن تزيد على الحد الأدنى من احتياجك الشخصي. كذلك من الممنوع أن تمتلك حسابا في البنك، ولو فاض من مصروفك الذي تتلقّاه من الإدارة فائض في آخر الشهر فعليك إعادته لها، ومجرد فكرة أن تحظى ببعض الخصوصية ولو في تناول الطعام، فهذا بمثابة التمرّد على التجمّع والعودة لحياة الانعزال اليهودي "جيتو" التي يحاربها الكيبوتس، كل شيء مشترك، حتى الحمامات نفسها، فلا توجد حمامات للرجال وأخرى للنساء؛ حيث إن هذا -وفق فلسفة الكيبوتس- نوع من الفردية والمخالفة للاشتراكية الكيبوتسية العتيدة. وحتى أطفالك لا تملكهم! فبعد ولادة الطفل بأيام قليلة ينتقل ل"بيت الأطفال"، حيث تتولى إدارة الكيبوتس رعايته، ثم بعد سنة ينتقل ل"بيت الصغار"، حيث يُسمَح لك فقط ببضع ساعات معه، وعندما يبلغ سنّ الالتحاق بالمدرسة يتعلم في مدارس الكيبوتس، حيث يلقّن مبادئ الصهيونية، ويتعلم الولاء لها، وتقرّر الإدارة كل ما يتعلق به من أمور، حتى نوع الموسيقى التي يتعلّمها، والنشاطات التي يمارسها، وفي سنّ الثامنة عشرة يرسَل لأداء الخدمة العسكرية في جيش الدفاع لمدة ثلاث سنوات، وبعدها يلتحق بالجامعة أو بالعمل. والكيبوتس نشأ كمجتمع زراعي يحقق لنفسه الاكتفاء الذاتي الكامل من حيث الغذاء، ثم تطوّر ليضيف لنفسه نشاطا صناعيا كبيرا، وتعاونا اقتصاديا قويا بين الكيبوتسات، وهو كذلك يتلقى دعما ضخما من الحكومة الإسرائيلية التي تدرك أهميته للدولة الصهيونية، هذا الدعم مالي، وكذلك عيني في صورة تزويد مجاني بالوقود والغاز والمياه والكهرباء والأسمدة. ومن حيث الحماية فإن الكيبوتسات تحرص على أن تفرض نظاما شبه عسكري على نفسها، بحيث يكون أفرادها في خدمة الدفاع عن أمن إسرائيل، أي أن أفراد الكيبوتس هم عبارة عن "جيش مدني خاص" يتولى حماية نفسه ومحيطه، ويسارع بخدمة الدولة الصهيونية، كما أنه المصدر الأساسي للأفراد بالجيش الإسرائيلي، حيث إن عشرين بالمائة من الضباط الجدد من أبناء الكيبوتس، فنسبة ثلاث وثمانين بالمائة من أبناء الكيبوتس يتّجهون للخدمة في الجيش الإسرائيلي. هذا فضلا عن أن الكيبوتس كان يلعب دورا قبل جلاء بريطانيا عن فلسطينالمحتلة في صناعة وتخزين الأسلحة والذخيرة لدعم مهاجمة الفلسطينيين وطردهم من أراضيهم، هذا فضلا عن الدور المهم للكيبوتس في تغيير شكل فلسطين، وتقسيم مناطقها والفصل بين التجمعات البشرية للفلسطينيين. هنا على الجميع العمل، وأسمى صور العمل هو العمل اليدوي، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، حيث لا يُعتَرَف هنا بالفارق بين الأجناس، فحتى عندما يجري الحديث عن رجل وامرأة فإن الإشارة لهما تكون ب"الزوج"، وحتى الزواج هنا يكون خاليا من إنسانيته، فهو مجرد وسيلة لتكاثر أبناء الكيبوتس فحسب، والحياة الزوجية ذاتها أمر مستهجن، وكذلك الأمومة، فالأمّ لا تمارس أمومتها بحكم انتزاع ابنها منها فور ولادته؛ وهذا كي لا تنشغل به وتتعطل ك"أداة" عاملة مفيدة للمجتمع! وفي السنوات الخمس والعشرين الماضية تغير شكل الكيبوتس بصورة كبيرة، فلم يعد ذلك المجتمع المتقشّف، بل إنه عرف كثيرا من صور الرفاهية، كحمامات السباحة الفاخرة والبيوت الأنيقة وقاعات الطعام باهظة التكاليف والرحلات السياحية داخل وخارج إسرائيل، وكذلك ارتفع دخل ساكن الكيبوتس حتى أصبح -وفقا للإحصاءات- من أعلى الدخول في المجتمع الإسرائيلي، وأصبحت مميزات البقاء في الكيبوتس كبيرة إلى حد صعوبة تفكير قاطنه في الخروج منه، ولكن بقيت فيه فكرتا الولاء للجماعة وأهمية العمل اليدوي. انحدار الكيبوتس أهمية الكيبوتس بعد إعلان إسرائيل سنة 1948 أصبحت أقلّ مما كانت عليه قبلها، وقد أصبح منذ العام 1977 في تدهور عن ذي قبل، فمنذ ذلك العام أصبح الليكود مهيمنا بشكل كبير على السلطة السياسية، وهو الحزب المضاد لحزب العمل، الذي كان محابيا للكيبوتسات بحكم انتماء قياداته لها، مما أثر على دعم الحكومة للكيبوتس. كما أن نمط حياة الكيبوتس خلق حالة من العزلة الاقتصادية والثقافية له، العزلة الاقتصادية تتمثل في كونه مجتمعا مغلقا ماليا، وحتى بعد أن أصبح يمارس النشاط الصناعي والعمل بسوق الأوراق المالية، فإن ذلك بقي في دائرة الكيبوتسات فيما بينها. وأما العزلة الثقافية فتتمثل في اختلاف قيمه عن قيم المجتمع الإسرائيلي ككل، بحكم انغلاقه وبحكم فلسفة حياته الساحقة للكثير من القيم الإنسانية. كذلك يتعرض الكيبوتس للتدهور نتيجة تراجع إقبال أبنائه على الانخراط في الخدمة العسكرية؛ لضعف إيمانهم ببعض الحروب التي تدفع فيها الحكومة الإسرائيلية بشباب إسرائيل لنار الحرب، كما حدث في حرب لبنان مثلا. أما العاملان الإضافيان للانهيار فهما حالات التمرّد النسائية على معاملة المرأة كأداة للتكاثر، وحرمانها من أمومتها وأنوثتها، والآخر هو انتقال عدوى العنصرية الصهيونية المتمثلة في التعصب لليهود الغربيين (إشكيناز) على حساب باقي الطوائف، فالكبيوتس في حقيقة الأمر عبارة عن تجمع إشكينازي كبير ينبذ أية أجناس أخرى! ختام إسرائيل كيان دخيل.. تلك حقيقة معظمنا يؤمن بها، ولكن تفكيك ونزع هذا الكيان الدخيل لا يتوقف عند الإيمان بذلك، بل يتعداه لضرورة فهم مكونات هذا الكيان، وفهم المكونات يبدأ من فهم المكون الأساسي الذي يمثل "الخلية الانقسامية" لو شبّهناه بالجسد الحيوي.. هذه الخلية هي "الكيبوتس".. لهذا علينا فهمها جيدا لأجل فهم ذلك الجسم الدخيل علينا، وتفكيكه.