من المؤكد أن هناك حكمة إلهية في كون الخطاب الإسلامي الدوري للمسلمين في يوم واحد وصلاة جامعة لا تكتمل إلا بالاستماع والإنصات لهذا الخطاب، ومراعاة قواعد شديدة الصرامة، بشأن التركيز فيه تصل لحد عدم رد السلام -الواجب ردّه في كل الأحوال الأخرى-أثناء الخطبة. تلك الحكمة حتى لو لم ندرك كلها أو معظمها فإن إدراكنا لوجودها يفرض علينا -خطباء ومستمعين- أن نتعامل مع هذا الخطاب بجدية شديدة. وعلى عاتق الخطباء يقع العبء الأكبر، ويبدأ هذا من إدراك الخطيب أنه يقف من المصلين في المسجد موقفا كان يقفه الرسول -عليه الصلاة والسلام- والخلفاء الراشدون من بعده، أي أن خطيب المسجد يؤدي إحدى مهام النبوة.. فعلى هذا الأساس يجب أن تكون مراعاته لعمله أمام الله ونفسه والناس. فيما يخصّ الخطيب من المنطقي أن لكل مهمة مواصفات دقيقة للقائمين بها، فلماذا إذن تحوّلت الخطابة في المسجد لمهنة من لا مهنة له؟ أليس من حقّ المصلين أن يطمئنوا لمؤهلات من سيخطب فيهم وينقل لهم ما لديه من معلومات وخبرات؟ عزيزي القارئ اسأل نفسك: كم مسجدا تعرفه تثق بمؤهلات وعلم خطيبه؟ إنها أقلية مع الأسف، والموثوق بهم تضيق مساجدهم عن أن تستوعب أعداد من لا يعرفون مؤهل ومصداقية خطباء المساجد التي يصلّون بها، ويريدون أن يخطب فيهم رجل يثقون به. ما الحل إذن؟ هو حلّ من اثنين، إما أن تشرف المؤسسة الدينية على كل المساجد، وتوجّه لكل منها خطيبا مؤهلا لذلك، وهذا صعب أولا لكثرة المساجد والزوايا والمصليات بالنسبة لعدد المتخرجين في الأزهر والحاملين للشهادات الدينية، وثانيا لأن ثمة واقعا مؤسفا يقول إن الأزهر اليوم لم يعد يؤدي مهمته -كمّا وكيفا- كما كان بالأمس في تقديم الكوادر الدينية القوية القادرة على تحمّل المسئولية. الحلّ الآخر هو أن يتم عمل حصر للمؤهلين للخطابة في كل منطقة، وأن يتم توسيع مساجدهم بحيث تستوعب المصلين في المنطقة كلها، بحيث يصبح في كل منطقة مسجد واحد أو مسجدان -أو أكثر لو أمكن- تلقى فيهم خطبة الجمعة بشكل سليم مفيد للمجتمع. (وهو بالطبع حلّ يحتاج تطبيقه إلى دراسة أهل التخصص في الفتوى للقول بجوازه من عدمه). كذلك من الضروري أن تتكون رابطة ما للخطباء تتدارس وتتباحث في كيفية تطوير وتنمية الخطاب الديني، بما يحقق أهدافه الدينية والدنيوية، كما يجب لخطاب كان يساهم يوما في تحريك وإرشاد الأمة لخير دينها ودنياها. تلك الرابطة عليها أن تكون نواة لمؤسسة متخصصة في حماية وتعليم وتطوير الخطاب الديني لتعود له مكانته. فيما يخص الخطاب نفسه: 1- الشكل لكي يصل الكلام الثمين للعقول عليه أن يُقَدَّم بالشكل الصحيح، لهذا فإن الخطابة علم وفن، لا مجرد كلام قيم يُصَبّ في الآذان، وهو علم طالما شكَّل جزءا مهما من الموروث الثقافي للعرب من قبل الإسلام، وجاء الإسلام فتبنّاه وكرَّمه بأن جعله من شروط اكتمال أجر صلاة الجمعة. مع الأسف فإن شكل الخطبة اليوم قد أصابه الضُرّ العميق؛ فالخطبة إما طويلة بإفراط، أو ملقاة بأسلوب مملّ رتيب لا ينتمي لفنّ الخطابة في شيء، أو أن كلامها غير مرتب وأفكارها غير منظمة بشكل سليم، مما يصيب المستمع بالتشتت بين نقطة وأخرى، أو الشرود عن الكلام، وكثير منا يعرفون القصة الشهيرة للخطيب الذي كان يقول ضمن خطبته: "وترى الفتاة تتزين وتتبرج ذاهبة لملاقاة الحبيب"، فيقول المستمعون بآلية في آن واحد: "صلى الله عليه وسلم"! هذه القصة التي تبدو للبعض مضحكة تكشف حقيقة مؤلمة هي أن كثيرا من المصلين أصبحوا يتعاملون مع خِطاب الجمعة باعتباره روتينا أسبوعيا يذهبون لأدائه، وقد ضبطوا أنفسهم على ردود أفعال آلية، كالصلاة على النبي -عليه الصلاة السلام- والرسل، حين سماع أسمائهم، ولكن دون إنصات حقيقي، كذلك يسهم التطويل المفرط في الأمر، فكما قال أبو بكر الصديق: "كثير الكلام يُنسي بعضه بعضا!"، والحقيقة أني لا أعرف ما الرابط بين إعطاء خطبة الجمعة حقها، والتطويل المفرط، فقد قرأتُ كثيرا من خطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم- ولم أجد أطولها يتعدى وقت إلقائه ربع الوقت الذي قد تستغرقه بعض الخطب اليوم. ثمة سؤال يحمل فكرة قد تبدو للبعض غريبة.. في بعض المؤسسات تحرص الإدارة على تعليم بعض موظفيها مهارات العرض/ presentation skills وفيها تدريبات قيّمة على كيفية جذب انتباه المستمع وإخراجه من شروده، وكسب تركيزه الكامل، فلماذا لا يحصل الخطباء على تدريبات مماثلة؟ أعتقد أنه من العار أن نكون قد برعنا يوما في فنّ الخطابة، ثم نتحدّث اليوم عن افتقاد خطبائنا لهذا الفن! 2- المضمون أول شيء ينبغي على الخطيب مراعاة الله فيه وفينا هو صحة معلوماته، كم منا سمع قصة "ثعلبة" الذي كان صحابيا جليلا، حتى طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بالثراء، ثم بعد ذلك منع الصدقة، وتكرر فيه قول النبي: "يا ويح ثعلبة"؟ حسنا.. منذ فترة بسيطة جدا علمتُ أن تلك القصة غير حقيقية، وأن بطلها "ثعلبة" مُفتَرَى عليه! هذه القصة كانت المفضّلة للخطيب السابق لمسجد اعتدتُ صلاة الجمعة فيه، وكان يكررها أكثر من مرة! هل لو كان ذلك الرجل قد بذل جهدا في التأكد من معلوماته، كان ذلك الظلم لصحابي جليل أن يقع؟ هذا مجرد مثال، والأمثلة كثيرة بشكل مؤلم ومخيف! ثاني أمر مهم هو أن يراعي الخطيب توازن حديثه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يخصّ الوعد والوعيد، فلا يكون كل حديثه وعيدا وتهديدا، ولا يكون كذلك وعدا مفرطا.. ولكن ما يحدث هو أن كثيرا من الخطباء يعتمدون على آيات الترهيب من النار، بحجة أن ذلك ما يحتاج إليه المجتمع اليوم.. والحقيقة أن مجتمعنا مهما بلغ انحداره لن يكون كمجتمع الجاهلية الأولى، ورغم ذلك فإن القرآن الكريم قد تضمن -عند نزوله- قدرا متساويا من الوعد والوعيد. ثم إن دور الخطيب في إصلاح المجتمع لا يكون بعرض الجانب الأسود منه فحسب، فهذا يقتل الإيمان بإمكانية إصلاحه، لكن مع الأسف ما يحدث الآن كثيرا هو إفراط الخطباء في تصوير مجتمعنا أنه قد فسد للأبد ولا أمل في صلاحه، وأننا جميعا أوغاد نستحق أن نكون حطب جهنم، أو كما قلتُ يوما للسيد وزير الأوقاف في مقابلة معه: "أحيانا أشعر بعد الاستماع لخطبة الجمعة أن لي قرونا وذيلا، وأني أحمل شوكة الشيطان الشهيرة!". أما الأمر الأهم فهو أن يكون المضمون مما يهم المستمعين، ويمس حياتهم عمليا، بشقّيها الديني والدنيوي، وكذلك أن يراعي الخطيب تباين ثقافات من يحدثهم، وألا يخوض في موضوعات شديدة الحساسية مما يُحتَمَل أن يسيء المستمع فهمها لو كان صغير السن أو ضعيف التعليم، كالإسرائيليات مثلا. أما ما لا يقل أهمية فهو أن يلتزم الخطيب آداب الخطاب، فلا يضمنه لعنا لأهل دين كتابي؛ فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يُبعَث لعّانا، والمنبر أجلُّ من أن يصدر اللعن من فوقه، وأن يلتزم قدر المستطاع لغة وسطا بين الفصحى المفهومة والعامية الراقية. ختام الخطاب الديني ليس فقط جزءا من فريضة دينية، بل هو أيضا جزء مهم من ثقافتنا العربية الإسلامية، وهو أحد مقاييس ما تبلغه تلك الثقافة من رقي أو تدهور.. علينا إذن التعامل مع الخطاب الديني على هذا الأساس.. لمصلحة ديننا ودنيانا.