كيف يرفع الحصار عن العقل في ممارسة حريته وقراراته وهو مكبّل في كل خطوة؟! وأية قوامة لرجل لا يستطيع التحكّم في غرائزه لمدة ساعات تغيب زوجته خارج المنزل؟ وكيف تضبط الزوجة غرائزه وهو يستغلّ كل لحظات الزمن الغافلة؟ في حالة الوعي الجماهيري المتأزم تجاه الحرية الذاتية، يفتقد الأفراد القدرة على تحمل تبعات أعمالهم وتصرفاتهم؛ فيلجأ الفرد -عندما يخطئ- لحِيَل دفاعية عقلية لا عقلانية، يمرّرها ضمن دائرة "المتعارف عليه" المتفقة ومسلّمات المجتمع المحفورة بفعل جهود أساطين الجهل، وأعداء القيم الإنسانية، كالادّعاء بتلبّس الجن أو سحرهم أو مسهم، أو تبرئة المجرم برمي طائلة جرائمه الأخلاقية على الشيطان؛ إيذاناً ببراءة ساحته المذنبة، وهنا نجدنا أمام وضع يتفاقم قيمياً وإنسانياً، يستدعي إعادة بناء عقلنة ملزم للقيم، يتجاوز التقديس المختوم بأشكال ومواصفات معينة، استغلّت ردحاً طويلاً كموارد تقديسية متسربلة في ثوب قصير، ولحية طويلة، إلى تأسيس معيار تفاضل سويّ مبني على فضيلة التقوى، ومؤسس على تجذير مبادئ الحق والعدل والحرية والمساواة؛ سعياً لتبنّي ثقافة الإنسان، وإغلاق منافذ الشيطان من الإنس والجان. نواجه في واقعنا المتأزم بحكايات توظيف الشيطان، وهي قياساً بتوظيف الجني -كثرة- تجبرنا على ترديد المثل القائل "الله يحلّل الحجاج عند ولده"؛ فالشيطان يُستغلّ لتبرير الأخطاء وانتهاك الحدود كالزنا؛ حتى صار ككارت براءة تبريري لكل خائن كاذب فاسد؛ بشرط أن يكون ذكراً لا أنثى؛ فالأنثى جزء من الشيطان في وعي التراث الأصفر التأبيدي!! تجلّى توظيف الشيطان في مقال نشرَته جريدة "الرياض" يوم الأحد لأحد المشايخ يوم الثلاثاء 19/ 10/ 2010 يسرد حواراً مع امرأة كلّمته شاكية: "اتصلت بي إحدى الأخوات وقالت: أشكو إلى الله ثم إليك زوجي؛ فأنا موظفة وزوجي موظف، وفي بيتنا خادمة.. نذهب لأعمالنا ونترك البيت للخادمة تقوم بترتيبه وتنظيفه وخدمة الأولاد.. وكانت ثقتي في زوجي لا يتطرق إلى سلامتها ما يؤثر عليها، وفي أحد الأيام اضطررت إلى العودة إلى منزلي أثناء الدوام، وبدخولي غرفة نومي وجدت زوجي مع الخادمة كما يكون معي؛ فصُعقتْ وبكيتُ من سوء ما رأيت؛ فقد رأيت الخيانة بأبشع صورها؛ فماذا أفعل يا فضيلة الشيخ؟" وجاء رده: "يا أختي.. لا شك أن زوجك مجرم وعاصٍ ومستحقٍّ لعقوبة الله في انتهاك حقوقه وحدوده".. ثم اتخذ مبدأ "عقوبة الله" معكوساً ليرسّخ لتغييب الوعي وتدليس الأسباب؛ بواسطة "لكن" الجالدة للبريء! "ولكنني أرى أن عليك من العقوبة والإثم ما يمكن أن يكون مضاعفاً على عقوبة زوجك؛ فأنتِ بغيابك عن بيتك وإهمالك مسئوليتك في الحفاظ عليه وعلى شرفه ومكانته واحترامه، أوجدت جواً ساعد الشيطان على غواية زوجك؛ حيث أتحتِ له الخلوة مع الخادمة وكان الشيطان ثالثهما...". أيّ مكانة واحترام يرجوهما الشيخ لرجل خائن؟! وأي شرف لا مسئول ينتظر الحراسة الخارجية؟! وبدأ يكيل اللوم للمتّصلة، ويفترض مملكة يعيش بها القديّس والجارية، راسماً جو استقبال ملكي بهيج، تبدو فيه الخادمة (الزوجة) تركض بكل اتجاه هاشّة باشّة لتمحو عن ملِكِها (الزوج) آثار التعب والعمل المضني، وانهال سيل التبرير للزوج الزاني في بيت الزوجية؛ "فالرجال يعيشون مع زوجاتهم العاملات عيشة شقاء شبيهة بالعزوبية! إن أراد منها ما يريد الرجل من زوجته، أظهرت له التردّد لأنها مرهقة، وإن نظر إليها نظر نظرته إلى أخته، ليس عندها تهيؤ له يدعوه إلى الأنس بها أو تبديد مشكلاته من عمله"، ثم بدأ يعِظ المرأة المسكينة المجروحة في كبريائها بتطفيف عملها بإيجابيات لا تُذكر وسلبيات تطيش بالميزان؛ حتى بدا عملها من التفاهة بمكان ليصوّره كعزيمة لا مكان عمل؛ فعملها اجتماع أُنْس بزميلاتها، وغالبه يُقضى في القيل والقال والتعرّض لعباد الله غيبة ونميمة واستهزاءً، وأما إيجابيته الوحيدة؛ فهي الراتب الذي تتنازعه الأيدي؛ فزوجها له نصيب الأسد منه، ثم أبوها وأمها وأولادها وزينتها، وأما كفّة السلبيات: فزوج وأولاد ضائعون وبيت يخلو من مراقبة الطهارة الأخلاقية. ثم ختم ب"الكليشة" المعتادة لنظرية لا مقدمة لها تصل به لنتيجة: "الإسلام ينظر إلى المرأة على أنها جوهرة عند أبويها، وجنة عدن عند زوجها". وبرغم ذلك يظل دورها هو حراسة هذا الوليّ الزائغ بفعل الشيطان، ويبقى سؤال ألزم في المنطق من بداياته: كيف تحرس الناقصة ديناً وعقلاً، الكامل ديناً وعقلاً؟! لكن لأننا مؤدبون لا نسأل المنطق؛ فثقافتنا لا تعتبر به، مشغولة بوعظ خالٍ من المقاصد والقِيَم، يرسم خطوطاً هلامية لأخلاق متوهمة لا تكاد تميّز معتنقها من منتهكها! علق أحد القراء على المقال متسائلاً: "لنفترض العكس وأن الزوجة هي من خانت مع السائق؛ فهل نرى تبريراً من فضيلة الشيخ؟" ليرتبط سؤاله بدائرة النقص والكمال المعطوبة؟! وتنثال الأسئلة مستثارة: كيف يرفع الحصار عن العقل في ممارسة حريته وقراراته وهو مكبّل بكهنوت استشاري في كل خطوة؟! وأية قوامة وولاية لرجل لا يستطيع التحكّم في غرائزه لمدة ساعات تغيب زوجته فيها خارج المنزل؟ وكيف تضبط الزوجة (صمام الأمان) غرائزه وهو يستغلّ كل لحظات الزمن الغافلة؟ ولِمَ لمْ تزِنْ زوجة عاقلة أمر مشكلتها بميزان وعيها؟ لمَ خلعت عن نفسها إدراكها لتلقّي تصرفها بواسطة وسيط ديني، وإن كان على حساب كرامتها وإنسانيتها وشعورها المجروح؟ من المسئول عن مطالبة المرأة أن تطأ النار لتصبح جنة لذَكَرها، فتحبس نفسها رقيبة على مخاوي الشيطان (بعلها)؟ أم أنها ورقة استهتار بالقيم تُشهر في وجه المرأة؛ فتنقاد بدافع ماسوشي يهبه الولايةَ والقوامةَ والجنة والعتق من النار؟ وإن كان هابطاً في أخلاقه لحدّ الزنا على فراش الزوجية؟! إنها باختصار: مأساة تخلّف، نحن أربابها! نُشر بجريدة الوطن السعودية بتاريخ 30/10/2010