"المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية علي خامنئي يفتي بتحريم سَبّ الصحابة والخلفاء الراشدين، والسلطات الإيرانية تطلب تعميم الفتوى". هكذا طالعتنا وسائل الإعلام منذ أيام بفتوى تناقض تماما ما هو معروف عن ارتباط المذهب الشيعي "الإثناعشري" بتكفير كثير من الصحابة، والخلفاء الراشدين، والسيدة عائشة أمّ المؤمنين، واعتبار أن سبّ الشيخين -أبي بكر وعمر- خيرٌ من التسبيح! "عندما يكون سب الصحابة خيرًا من التسبيح" الشيعة "الإثناعشرية" يكفّرون الخلفاء الراشدين أبا بكر وعمر وعثمان، اعتقادا منهم بأن هؤلاء قد اغتصبوا حقّ الإمام علي في الخلافة، ويكفّرون كذلك السيدة عائشة والصحابيّيْن طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام؛ لأنهم قد خرجوا لمقاتلة الإمام علي في معركة الجمل (كانوا يعتقدون أنهم بذلك يُلزمونه كخليفة بالقصاص من قتلة عثمان، وقد تراجعوا عن موقفهم، وأقرّوا بالخطأ بعد ذلك) وكذلك تضمّ قائمة التكفير الصحابيَّيْن معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص؛ لخصومتهما مع الإمام علي حول دم عثمان بن عفان، والأحقية بالخلافة. وقد سُمّيَ "الإثناعشرية" -ومَن على مثل رأيهم في الصحابة- بالرافضة؛ لأنهم رفضوا ما أمرهم به الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من توقير الصحابة وعدم سبّهم، ولم يتّبعه سوى عدد قليل هم "الزيدية"، ومذهبهم معترف به من أهل السُنة. وقد نقلت لنا كتب التاريخ بعض ممارسات الرافضة فيما يتعلق بسبّ الصحابة، فقد كانوا يكتبون سباب الصحابة على مساجدهم، وفي إيران القديمة كان اسم "عمر" مكروها لحدّ أن الصبية كانوا يكتبونه على نعال أحذيتهم، ويُطلقونه على دوابّهم، وفي مصر الفاطمية كان رجال الدين الشيعة يسخرون من فتاوى عمر بن الخطاب بقولهم: "من أين جئت بهذا يا عمر"، ويمطّون "يا عمر", وهي الكلمة المستخدمة حتى الآن في المشاجرات السوقية في مصر. وبالطبع لا يأخذ هؤلاء بأية أحاديث أو فتاوى أو اجتهادات فقهية من أي من الصحابة المُكَفّرين! كل ذلك ليس من "نوافل" المذهب الشيعي "الإثناعشري" وإنما من "مكوّنات العقيدة" لديهم، وهي الركيزة الأساسية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، بالتالي فإن الدهشة واجبة من فتوى المرشد الأعلى وموقف السلطة الإيرانية! هل تتخلى إيران عن عقيدتها تطبيقا لمبدأ الضرورات تبيح منع سب الصحابة تلك الفتوى للمرشد الأعلى تتزامن مع عدد من التحركات السياسية الإيرانية في المنطقة؛ فالرئيس أحمدي نجاد كان يستعدّ لزيارة لبنان وسط احتفاء شعبي وحكومي وحزبي كبير، وسفير دولة الكويت كان يتحدّث عن ضرورة تعزيز العلاقات بين بلاده وإيران، والمسئول الإعلامي للسفارة الإيرانية في الكويت كان يؤكّد على "تجذّر" العلاقات الكويتية الإيرانية، وخرجت تصريحات سياسية إيرانية "تغازل" سوريا بتأكيد أن إيران وسوريا هما الأكثر حرصا على حماية لبنان، بينما تردّ سوريا بتأكيد أن زيارة نجاد للبنان لها آثارها الإيجابية القوية، ومصر تؤكّد تمسّكها باتفاقية النقل الجوي المتبادل مع إيران. لكل حدث من هذه الأحداث دلالاته، ولها مجتمعة دلالتها الواضحة؛ إيران تريد حماية مصالحها لدى العرب، خاصة في فترة تتزايد فيها الضغوط الغربية عليها، وتلوح في الأفق -من حين لآخر- نُذُر الحرب! أما الحدث السابق لكل ذلك ويضيف علامات استفهام إضافية للأمر فهو قيام رجل دين كويتي شيعي بالإساءة للسيدة عائشة -رضي الله عنها- وقيام الكويت بسحب جنسيته في إجراء عقابي صارم له، وكان الإعلان عن ذلك قبل أيام قليلة جدا من فتوى خامنئي، وفي خطوة أشبه بالمسارعة لإعلان البراءة الإيرانية من مثل تلك التصرفات المستفزّة للجماهير السنّية التي تُكوّن الغالبية العظمى من شعوب الدول العربية، بالذات دول الجوار مع إيران. والسؤال الآن: لماذا لم يصدر تصرّف مماثل من القيادة الإيرانية منذ سنوات عندما قبضت أجهزة الأمن المصرية على تنظيم شيعي في الإسكندرية، قام شيخه خلال خطبه (التي سمعت واحدة منها بنفسي) بسبّ الصحابة بأعتى وأكثر الألفاظ بذاءة؟ ألا تثير كل تلك المعطيات التساؤل؟ لماذا وافق الشيعة على طلب سبق ورفضوه للإمام الحسين من الصعب في الدولة الإيرانية معرفة الحد الفاصل بين السلطتين الدينية والسياسية، ويصل هذا لحدّ الاستحالة فيما يخصّ القرارات السياسية المحرّكة للدولة، فيما يخصّ قضايا العلاقات الدولية والأمن القومي والمصالح الخارجية، بالتالي فإن افتراض أن فتوى الإمام خامنئي مُسيَّسة،وليست مجرد خطوة إبداء احترام لمشاعر السنّة، هو أمر له أسبابه المنطقية، خاصة أنها لو كانت فتوى عادية لصدرت من رجل دين متوسّط الوزن سياسيا، أمّا صدورها عن آية الله العظمى، ورأس السلطتين الدينية والمدنية نفسه، فهذا أمر له دلالاته في رأيي. ففتوى آية الله العظمى في دولة كإيران ليست مجرد فتوى اختيارية التنفيذ، فالشيعي "الإثناعشري" المؤمن بعقيدته والمخلص لها لا يمكنه أن يعيش دون توجيه شبه كامل من "الفقيه"، فهذا من دعائم عقيدته، وفي الوقت نفسه فإن فتوى المرشد الأعلى بشأن سبّ الصحابة ومسارعة المؤسسة الحكومية للتأمين عليها وطلب تعميمها يمسّان موروثا إيرانيا ثقيل الوزن شديد الرسوخ، بشكل يفيد بشدّة بأن الافتاء بإيقاف هذا الطقس التعبّدي بل وتحريمه هو تضحية بشيء مهم، لا مبرّر لها سوى السعي لتحقيق مكسب يستحقّ مثل تلك الخطوة القوية! والسؤال الآن: إلى ماذا يرمي النظام الإيراني بتلك الفتوى القوية؟ هل هي محاولة لتجنيب إيران عواقب غضبة دينية شعبية في البلدان الإسلامية مماثلة لتلك التي أصابت الدنمارك منذ سنوات؟ هل تسعى إيران لتأمين ظهرها من جهة الدول العربية السنّية ولا تريد أية منغّصات لذلك؟ هل هو سعي إيراني لكسر العزلة الدولية التي يحاول الغرب فرضها بفتح باب على العالم من جهة العرب؟ الله أعلم.. ولكن مع بلد له طبيعته الخاصة مثل إيران، ينبغي أن لا نمرّ على أية أحداث -داخلية أو خارجية- مرّ الكرام.. ولو كانت الفتوى في أي بلد آخر لهان الأمر، ولكنها في بلد تمثّل فيه فتوى الفقيه جزءا مهما من القانون بل والدستور! فالأمر يستحقّ النظر والتأمّل إذن.