إن هي إلا أشياء بسيطة.. بسيطة للغاية!! حين قرّرت وزارة التربية والتعليم إلغاء بعض الدروس من مادة العلوم من باب الأدب، وتغيير بعض المفاهيم والمصطلحات التاريخية من باب التدقيق، وتخفيض النصوص القرآنية من اللغة العربية قبل ذلك من باب عدم إشعال الفتنة الطائفية، وبيان أهمية المحافظة على البيئة وحقوق الإنسان عن محتوى مادة التربية الدينية من باب الثقافة العامة، فصارت كل هذه الأبواب تفضي لباب واحد "مغلق حاليا للإفسادات وليس التحسينات"... لنعُدْ إلى الأصل، لماذا نتعلّم؟ لماذا نكابد كل عام مصاريف الدراسة والمواصلات والدروس الخصوصية واليونيفورم الذي سيرتديه أبناؤك، هذا لو اعتبرنا أنهم يذهبون للمدرسة من الأساس؟ ولماذا تصرخ الناس الآن بسبب اختفاء الكتاب الخارجي الذي يجدون فيه السبيل الوحيد لفهم الكتاب المدرسي؟ الذي حين طوّروه لم يفكروا سوى في الحذف وتلوين الغلاف!!! لماذا كل هذا الحرص على الرغم من أننا دولة لا تحترم العلم، ويتمنى كل أب أن يجد ابنه في شهرة لاعب كرة قدم، ويعرف أن راتبه الذي سيتقاضاه وهو يحمل شهادة جامعية محترمة لن يقيم له حياة عادلة أو حياة أصلا، لتجد أن مسألة التعليم إما إنها وجاهة اجتماعية، أو على أقصى تقدير (حافظين إننا نتعلم.. مش فاهمين). أنا واثقة من أن هذا هو ليس التعليم أو العلم الذي طالب النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما ما منّا أن نذهب وراءه ولو إلى الصين أو إلى أي مكان مهما بعد، العلم الذي يحرّكه شغف المعرفة، والذي يرقى بالإنسان وحياته، ويدفعه لمزيد من الفهم ومن ثمّ اقتناء الحكمة، فتصير حياة البشر أفضل.. أين تلك الحكمة في ما يحدث؟؟ إذا كان مفهوم التعليم قد فُرّغ من محتواه وفائدته الحقيقية فلن ترى في أي تغيير يحدث حاليا ما يعيب، لن تجد أن الحذف يوازي التزييف، يوزاي إلغاء المادة حتى، وإن وُجِدت بمسماها لكن ليس بمحتواها الحقيقي، لن تشعر به بل وستباركه، فإن لم تجد سذاجة في نصّ التصريح بإلغاء الدروس الخاصة بالثقافة الجنسية من كتاب العلوم وتحويلها إلى أنشطة! ستجد في أقوال المعلّقين على هذا القرار فكرا قاصرا منقطع النظير، تلك الدروس التي تقدّم تشريح الجهاز التناسلي للذكر والأنثى، وهذا الجهاز -وياللعجب- جهاز عضوي مثل الجهاز التنفسي والهضمي وغيرهما يوجد بجسم الإنسان، لكن نحن رأينا أنه من العيب شرح تلك الأمور الخارجة في المدارس، خاصة وأن المدرس يشرحها بشكل غير محترم وغير لائق، وما فائدة الدراسة و(العيل نازل من بطن أمه فاهم كل حاجة، والنت ماخلاش حدّ مستني يفهم من المدرسة).. هذا التفكير الذي لا يُوصف بأكثر من أنه "تفكير مصاطب" والجهل مقارنة به يعدّ تقدّما. أخبرني بعقلك ما علاقة دراسة العلم بقلة الحياء؟! وما دخْل وجود مدرّسين غير مؤهّلين لأداء وظيفتهم التربوية بإلغاء تلك الدروس؟ هل حين يخفق مدرس في شرح مادة اللغة العربية سألغيها؟!! لماذا إذن لا ألغي كلية الطب؛ لأنها كلية سيئة السمعة، بل وتدرّس أجسادا عارية أيضا؟؟ وكيف لنا أن نتقبّل ترك الطلبة ليستقوا معلوماتهم وحدهم من مصادر خارجية صحيحة كانت أم خاطئة، أم إنهم لن يفكروا في تلك الأمور؛ لأنها لم تُعرض عليهم في المقررات التي يدرسونها؟؟؟ وتستمر التعليقات الغريبة التي توضّح إلى أي مدى وصل بنا التفكير المتردّي، فآباؤنا تزوّجوا دون دروس عديمة الأخلاق أو ثقافة جنسية، بل وأكملوا حياة ناجحة دون أن نرى نسب الطلاق المرتفعة الآن.. إن مثل هذا الحديث كمن يقول إن الجمل كان وسيلة مواصلات ناجحة، فلماذا نفكّر الآن في السيارة؟!! حقيقة.. لا تعليق. أما كارثة اللغة العربية فشيء آخر متفرّد في ذكائه، متألق في عبقريته، بداية كانت بالآيات التي تضمّنتها الدروس وتقرّر كنصوص على الطلاب، ولأننا في عصر الفتنة الطائفية، فسنخفي الآيات التي تدعو للجهاد من أجل سمعتنا، بدلا من أن نشرحها ونبيّن تفسيرها الصحيح ونضعها في سياقها التاريخي، ونربطها بالواقع دون مزايدة من أحد، ولأن ما دخل الطلبة المسيحيين بدراسة تلك الأمور وفرض حفظها عليهم؛ لأنها الطريق إلى النجاح؟؟ لكنك على الجانب الآخر لا تجد اهتماما يعوّض ذلك بمنهج التربية الدينية أو حتى وضعه واحترامه من قبل الطلبة والمدرسين، ويتمّ الزجّ بمواد جديدة مفتعلة في وجودها وكأنها ستنفي الاحتياج الطبيعي للتعرف على الدين كرغبة حتمية لأي آدمي!!! هذا ما يدفع طالبا جامعيا إلى أن يستمع لأي شيخ أو "مستشيخ" لاحقا، وكأنه يتعرف على هذا الدين الجديد لأول مرة في حياته، وحينها لا نلوم إلا أنفسنا في تلك العقول التي تركناها فارغة لأي كائن يعيث فيها فسادا... أما تاريخك فأصبح جزء منه يتحدث عن إنجازات العصر "المباركي"، الحقيقة أننا لو كنا صرحاء مع أنفسنا لوجد الأهالي أنفسهم في مأزق، فكيف سأعلّم ابني أن العصر الذي يحيا به هو أزهى عصور التطور والديمقراطية، وهو يجلس وسط ستين طالبا غيره يبحثون عن الهواء وليس الفهم، أم إننا سنجعلهم يذاكرون فقط دون اقتناع، ولو تساءلوا هل سنخبرهم أنه ليس بالفهم وحده يحيا الإنسان، ولكن بالحفظ فقط!! وإن تملّكت الصراحة من أحدهم فماذا سيقول؟؟ احتفظ بتلك المعلومات حتى الامتحان لكن تذكّر أنها ليست الحقيقة، ليكون أول درس حقيقي يتعلّمه في حياته هو لا تثق في أي منتج حكومي، وأن للحقيقة وجوها كثيرة... لا أدري متى صار العلم يخضع للأهواء الشخصية، ويتحكم في عرضه بالقصّ واللصق والتأليف والتلفيق أي مسئول أيا كان، إلى أين إذن نذهب بوعي الأجيال الجديدة، وماذا ننتظر منهم؟؟ وإلى خبراء التعليم ماذا يرِدُ بذهنكم وأنتم تتحكّمون في مصير عقول أبناء هذا الوطن أم إنكم لا تعلمون؟!!